سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

مجيد غزي… تراث من ذهب


عبد الرحمن محمد –


التراث الشعبي لأية أمة من الامم سر بقائها ودليل غناها، وما تحتفظ به الذاكرة الشعبية مخزون من مفردات البقاء لا ينضب، باق ما دامت البشرية في بقاء، وكلما تلون هذا التراث الشعبي وضرب بأعماقه في متون التاريخ كان ذلك دليل غنى تاريخي وحضاري لا يزول.

كذلك التراث الكردي الذي برز فيه شخصيات وعمالقة دونوا اسماءهم بأحرف من نور في التراث  التاريخ الكردي الثقافي والمعرفي والانساني العالمي، وإن كان العديد منهم للأسف لم يُعرف أو إنه عرف ونسب إلى مثقفي وعلماء وأدباء أقوام أخرى، كما نسب العشرات من العلماء والمثقفين الكرد وعرفوا كمسلمين أو كعرب وكأتراك. وكان لهم مساهمات جمة وبصمات واضحة في الثقافة والعلوم الإنسانية وفي ثقافة وفن وأدب المنطقة.
أحد الجنود المجهولين إلى حد ما كان مجيد حسين عبدالرحمن «مجيد غَزي» العاشق للثقافة والتاريخ والفلكلور الكردي، الذي رحل دون ان يترك خلفة ضجيجاً اعلامياً ولا اهتماماً  يليق بقامة أفنت جل سنين عمرها في البحث عن مأثور التراث الكردي من أقوال وأفعال ومأثور الكلام والحكمة والحزازير، وان كان النسيان يكاد يطوي صفحات ذكره فحري بنا ان نعرف بعض من جوانب اعماله وحياته الشخصية.
«مجيد حسين عبدالرحمن» أو كما عرف في وقته بمجيد غزي نسبة لوالدته، ولد في تل شعير القريبة من قامشلو عام1937م. وعائلته من سكان قرية سيد علي شمال شرق الحسكة حوالي 15كم. ومن عشيرة كابارا، تربى يتيماً وكفلته والدته مع أخين وأختين، تزوج من ابنة عمة وأنجبا أربع بنات وولداً وحيداً. عرف منذ نعومة أظفاره بحبه العلم والأدب والثقافة، ورغم أنه لم يدخل المدرسة أو ينضم لحلقات العلوم الدينية بسبب الفقر، إلا أنه استطاع أن يتعلم القراءة والكتابة وتعلم اللغة الكردية إضافة للعربية والإنكليزية قراءة وكتابةً.
كان مجيد غزي من عشاق البحث عن مفردات الفلكلور
والتراث الكردي، وعن مناهل المعرفة ومنابع الثقافة، وكان للتعويض المادي الذي حصل عليه بدل أرضه الزراعية في قرية “سيد علي” فرصة له ليشتري بيتاً في حلب بالقرب من مقهى «جميل هورو» ليكون على تواصل أكثر مع المثقفين من كتاب وباحثين وشعراء كرد.
 “طمبر المازوت والكاز” كان مصدر رزق للمرحوم وكذلك كان راحلتة التي قصد بها أغلب المناطق والقرى في شمال شرق سوريا متنقلا بين ديريك وقامشلو وكوباني وعفرين وعامودا، وهكذا جمع الآلف من الاقوال المأثورة والحكم والأمثال الشعبية الكردية من كل منطقة وقرية حل بها، وهو يبيع الكاز والمازوت حينا وحينا يبيع أغطية الرأس الدارجة في المنطقة وعلى الأغلب ” الهباري” ليكون ذلك غطاء لعملة الآخر الذي طالما عشقه وهو البحث في التراث الشعبي الكردي  الشفاهي وتدوينه.
جايل “مجيدغزي “العديد من الشخصيات والقامات المعروفة بنضالها وبحثها في الثقافة والادب الكردي فقد كان صديقاً للعديد من المثقفين آنذاك أمثال «سيداي تيريج وصالح حيدو وملا عبد الفريد وملا عبدالعزيز» وغيرهم.
كان «حب مجيد غزي» لقومه وكرديته فوق كل اعتبار، تعرف على الثورة الكردية في باشور في بدايتها وزار المناطق الكردية هناك، كما زار مناطق شرق كردستان، وفي روج آفا كان ملاحقاً كثيراً من الأوقات بعد أن عُرف بمواقفه الوطنية، وأُلقي القبض علية عشرات المرات، وتعرض لصنوف من التعذيب والاستجواب حتى إلى قلع الأظافر، وفي احدى المرات أواخر عام 1986م كان برفقة الكاتب المعروف «صالح حيدو» واعتُقل في حلب بعد أن تمت الوشاية بهم من قبل بعض الحاقدين، وكانت معه بعض الكتب الكردية، وبعد ثلاثة أشهر تم تحويله إلى سجن قامشلو ولم يكن أحد يعلم بمكانه طيلة فترة اعتقاله، لكن كل ذلك لم يثنه عن عزمه ورسالته، وعندما ظهرت حركة التحرر الكردستانية وتعرف عليها كان من المؤيدين لها ومن المؤمنين بفكر وفلسفة الحركة والقائد عبدالله أوجلان وقام مع مجموعة من أصدقائه المثقفين بزيارته في لبنان.
مكتبة ومخطوط واحد، والعديد من الأعمال اختفت
جمع مجيد المئات بل الآلاف من الأمثال والحكم والمقولات الكردية والحزازير في عدة كتب، والعشرات من أغاني الحصاد والفلاحة والأعمال الأخرى المعروفة شفاهياً بـ «بردولابي»  ولأنه كان في خوف دائم من الملاحقة وكان دائم التجول فقد ترك العديد من أعماله لدى العديد من الأصدقاء وللأسف ضاع الكثير منها وكانت أربعة مجلدات كما نعلم، وكانت له العديد من التسجيلات الصوتية ضاعت أيضاً، وكل ما بقي من أعماله هو مجموعة من الأمثال الكردية بحدود ألفي مثل وحكمة وبعض الأغنيات التراثية التي كانت ترافق الأعمال الموسمية «بردولابي» والمخطوطات الباقية يوجد منها نسخة بخط اليد ونسخة أخرى مكتوبة على الآلة الكاتبة ومفهرسة حسب الأبجدية الكردية كتب مقدمتها الشاعر الكبير سيداي تيريج.
اليوم وبعد انتظار طويل قامت “لجنة الأدبيات في غرب كردستان” بطبع كتاب يضم ما تبقى من أعمال الكاتب مجيد غزي في كتاب بعنوان (أقوال ملونة في تراث من ذهب  Gotinên Rengîn Ji Kultûreya Zêrîn) والكتاب يضم المئات من الاقوال والحكم والامثال الكردية وفي 126 صفحة من القطع الوسط ومقدمة للكاتب والشاعر والسياسي سيداي تيريج وكلمة لعائلة الكاتب المرحوم كتبتها حفيدته “ديلبر احمد” وسيرى الكتاب النور قريبا بعد عودة الأنشطة الثقافية والادبية فور الانتهاء انشاء الله من الحظر المفروض بسبب جائحة كورونا.
يذكر ان الكثير من أعمال المرحوم ضاعت وأن العائلة تبرعت بمكتبته لصالح مكتبة مركز خابور للثقافة والفن في مدينة الحسكة، وأنه انتقل إلى جوار ربه بعد انتفاضة12 آذار في  قامشلو، في السادس من أيار عام 2004م.