سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

ما العمل لإنقاذ الليرة السورية؟

مهيب صالحة –

العملة الوطنية مرآة الاقتصاد وقوتها من قوته، وضعفها من ضعفه، والقاعدة الاقتصادية التي تدعم المركز المالي للعملة تقوم بالأساس على القدرات الاقتصادية المتاحة لإنتاج السلع والخدمات في الصناعة والزراعة والبناء والتشييد والسياحة والتجارة، والتي من شأنها تحسين ميزان المدفوعات وزيادة احتياطي البلاد من العملات الأجنبية والذهب من خلال زيادة عوائد التصدير وعوائد الاستثمارات الوطنية في الخارج، والعوائد الضريبية على الاستثمارات الأجنبية في الداخل، وتحويلات المواطنين المقيمين خارج البلاد ومن قوة جذب الجهاز المصرفي الوطني للودائع الوطنية والأجنبية بالعملات الصعبة وتوظيفها في الاقتصاد.
من المؤكد أن الاقتصاد شديد الحساسية تجاه الأوضاع السياسية والأمنية في أي بلد، لذلك فإن الاقتصاد السوري بسبب الحرب يعاني من أزمة ركود تضخمي خانقة نتيجة دمار جزء مهم جداً من بنيته القطاعية، وهجرة آلاف العقول والقوى البشرية إلى الخارج وتدني مستواه التقاني وبلوغ الاستثمار مستويات متدنية للغاية، مما أدى إلى توقف النمو الاقتصادي مصحوباً بارتفاع كبير في المستوى العام للأسعار تسبباً بتدهور القوة الشرائية للدخول وخاصة الثابتة منها وانخفاض سعر صرف العملة الوطنية. إلا أن سعر الصرف لم يدخل قط حيز الهبوط المستمر مصحوباً بتفاقم الفقر مع فاقة غذائية شديدة، في أوقات تدهور الحالة السياسية والأمنية وتراجع سيطرة الحكومة قبل سنة 2015 كما هو حاصل الآن في ظل تحسن الحالة السياسية والأمنية واتساع نطاق سيطرة الحكومة.
من هنا يمكن القول أن اللغط الجاري حول سعر الصرف غير واقعي الهدف منه خلق حالة من الهلع في سوق القطع لسحب أرصدة الناس ومدخراتهم من العملات الأجنبية، وإجبارهم على بيع موجوداتهم لشراء الحياة، وخلق بلبلة في السوق قد تؤدي إلى انهيارات متتابعة في قدرتهم الشرائية، بقيام التجار برفع الأسعار مجدداً تحسباً من استمرار سعر الصرف في الهبوط حفاظاً على رؤوس الأموال المستثمرة ومعدلات الربح المقبولة بالدولار. وتجدر الإشارة إلى أن أي رهان على تدفق نقدي بالعملة الصعبة من الخارج لإنقاذ الليرة السورية من الهبوط ستكون عواقبه خطيرة على الاقتصاد الوطني، باعتباره استثماراً أجنبياً باهظ التكاليف السياسية والاقتصادية، ويظل مؤقتاً ومولداً لمرحلة جديدة من هبوط سعر الصرف. وبالتالي إذا لم تتكاتف كل الجهود الوطنية وبأسرع وقت لوقف النزيف، ومحاربة الفساد والمفسدين والمخربين، ووضع حد لطمع التجار والمتنفذين في الاقتصاد الوطني، فإن سعر صرف الليرة السورية سوف يستمر بالتدهور وربما بوتائر أسرع في الأشهر القادمة. وليس من قبيل المبالغة القول بأن معركة إنقاذ الليرة السورية من التدهور هي معركة وطنية بامتياز تتغير فيها الولاءات والاصطفافات السياسية، وتتبدل الأهداف والمفاهيم والإدارات، بل يمكن القول إنها أم المعارك في سياق الصراع من أجل المحافظة على كينونة سوريا.
إن إنقاذ الليرة السورية من التدهور، مع وقف نزيف الاقتصاد الوطني وعودته إلى سيرورة النمو مجدداً، يتطلب تطبيق برنامج الحد الأدنى الممكن والمتاح، وفي الوقت ذاته تقدر عليه أية حكومة طوارئ اقتصادية مسؤولة وراغبة ريثما تتضح معالم نهاية الأزمة، وتتعافى البلاد وتستقر أوضاعها. ويتلخص هذا البرنامج من وجهة نظري بالآتي:
1ـ إن استمرار الحرب يعني بقاء استنزاف الاقتصاد ومرآته الليرة السورية، لذا فإن وقف العمليات الحربية بعد فتح طريقي حلب ـ دمشق وحلب ـ اللاذقية أمام المسافرين والبضائع سوف يبعث برسالة مهمة للمستثمرين السوريين للعودة والمساهمة في تحريك عجلة الإنتاج.
2ـ سحب السلاح من المواطنين ومن الميليشيات والجماعات المسلحة، وحصر حيازته بالإدارة في المنطقة وأجهزتها المختصة من جيش وشرطة فقط، وإطلاق يد القضاء والشرطة للقيام بواجباتهما القانونية.
3ـ إطلاق حوار وطني لإنتاج مشروع بناء دولة حديثة على أساس المواطنة والمشاركة وسيادة القانون بمشاركة جميع السوريين.
إن البنود الثلاثة السابقة من شأنها أن تحسن البيئة السياسية والأمنية للأعمال بما يوحي بالثقة بالبرنامج الاقتصادي لإنقاذ الليرة السورية.
4ـ إطلاق عملية إعادة بناء وطنية تقوم على أسس اقتصادية وعمرانية جديدة ومتجددة تكفل الحرية الاقتصادية للأفراد، وتمنح الإدارة في المنطقة حق التدخل الاقتصادي والاجتماعي من أجل المحافظة على التوازنات الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية، ووضع خطة لعودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم، ومشاركتهم في إعادة الإعمار والبناء ودون التعرض لهم.
5ـ خضوع حسابات كبار المتمولين والمتنفذين بالاقتصاد السوري خلال فترة الحرب لمراجعة وتدقيق صارمين، لتحصيل حقوق الدولة عن أرباحهم التي لم تحصل لأي سبب كان، وتحصيل ما يترتب عليهم من مساهمات لدعم الليرة السورية.
6ـ إلغاء عقود استثمار القطاعات المنتجة للدخل مع القطاع الخاص، وتحويلها إلى هيئات استثمار عامة تخضع لرقابة ومحاسبة صارمة.
7ـ فرض ضريبة تصاعدية لدعم الليرة على الثروات الكبيرة التي تتجاوز عشرة ملايين ليرة في السنة، تبدأ بمعدل 5% وتصل إلى 20%. والعمل على تطبيق ضريبة القيمة المضافة، وتحسين نظام الجباية الضريبية.
8ـ رفع سعر الفائدة على الودائع الوطنية بالليرة السورية تدريجياً من 8% حتى تصل إلى 15% وخلال ستة أشهر فقط.
٩ـ قبول واسترداد الودائع بالعملات الأجنبية وبفائدة تزداد تدريجياً خلال ستة أشهر من 2% حتى تصل إلى 9%.
10ـ طرح سندات وأذونات خزينة بالليرات السورية وبالدولار مدتها من سنة وحتى عشرين سنة، بمعدلات فائدة متزايدة حسب طول مدة الاستحقاق ومكفولة بضمانات عقارية من أملاك الإدارة التي تدير المنطقة.
11ـ تشجيع المصارف التجارية والمتخصصة على منح قروض استثمار متوسطة وطويلة الأجل بالعملة المحلية وبالعملات الأجنبية، لتمويل استيراد الآلات والتجهيزات والمواد الأولية في مجالات إنتاجية وخدمية تحددها الحكومة.
12ـ تمويل المستوردات من السلع والخدمات الأساسية بالقطع الأجنبي من المصرف المركزي وبالسعر الرسمي، حتى يذوب الفارق بينه وبين سعر السوق، وتشجيع الصادرات بمنحها ميزات تنافسية بسعر الصرف.
13ـ الرقابة على أسواق السلع من حيث الكميات والنوعيات والأسعار، والتشدد بمحاسبة المخالفات التموينية.
14ـ ترشيد الاستهلاك العام والخاص بزيادة الضريبة على استهلاك السلع والخدمات الكمالية.
إن هذه الخطوات التنفيذية، برأيي، كفيلة بزيادة الاحتياطي من العملات الصعبة، وتحسين الثقة بالجهاز المصرفي، وزيادة الاستثمارات الإنتاجية، وتحسين الكفاءة الاقتصادية والفنية، وتحريك القطاعات الإنتاجية، ومع تحسين الأداء الاقتصادي والمالي والإداري بزيادة جرعات محاربة الفساد الإداري والمالي في أداء مؤسسات الدولة، واعتبار الشفافية أساس عملها الذي على أساسه تتم محاسبتها، تستطيع الإدارة المعنية بشؤون المنطقة إنقاذ عملتها الوطنية من التدهور وتحسين مستوى معيشة مواطنيها، تمهيداً لمرحلة سياسية واقتصادية جديدة بعد سنوات الحرة المدمرة.