سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

لـمــاذا الشّـــعر؟

ريما آل كلزلي_

الشّعر نتاج نوعي في اللّغة، وهو يعدُّ أحد الوسائل الفنية الأدبية العريقة، التي تنقل الأحاسيس والأفكار بأسلوب مكثّف ومُوحٍ، هو النص الأعزل الأعظم الذي يساير الأزمان، وسيبقى ذخيرة الروح الإنسانية الخالدة مهما تنوعت أفكاره وأنواعه. وهو الأمر الذي يمنح الشعراء فرصة لاستكشاف ومشاركة تجاربهم الشخصيّة من خلال الكلمات، فيمثّل التحرر العاطفي والنّفسي من خلال رسم صور تعبيرية تلمس القلوب وتحرّك العواطف، أسهَم الشّعر في حفظ وتوثيق التراث، والهويّة عبر العادات الثّقافية، كأداة قويّة للتعليم لأنه يحفّز التّفكير النّقدي والتحليل، فالشّعر “يروم التّعليم ويهذّب الأخلاق” حسب هيجل، وقال عنه الجاحظ: “أنّه صناعة وضرب من النّسج وجنس من التّصوير”. (الحَيَوان: الجاحظ، 130/2)
الشعر آفاق من المُتعة الجمالية والمعرفية، تتشكّل عبر تصوّرات الشاعر التي تنبثق عن ذاتيته وتجربته الخاصة، وتأملاته، تتم حسب رؤية روبرت ياوس في التلقّي والقراءة، “يقرّر ياوس أن المتعة الجماليّة تتضمن لحظتين، الأولى تنطبق على المُتع يحصل فيها استسلام غير تأمّلي من الذات للموضوع، والثانية غريبة للمتعة الجمالية إذ تتضمّن اتّخاذ موقف يؤطّر وجود الموضوع ويجعله جماليّا”.(روبرت سي هول: نظرية الاستقبال، 1992، ص92).
يعمل الشّاعر في نصّه على إنتاج موضوع عايشه بشكل عميق، وتشرّبه إلى درجة الاندماج بوعيه الذاتي، أو تخيّله. يعيد تشكيله حسب رؤاه وخبرته، فيؤطره جماليّا بلغته ومفرداته الخاصة. رغم جذوره العميقة الممتدّة في التّاريخ الإنساني؛ فإن الشّعر مازال يثير الجدل، ويحظى بأهمّية كبيرة في ثقافات العالم، عبر المسارات التي اتّخذها والتّحوّلات والتحدّيات التي يواجهها إلى يومنا هذا.
إذا ما عدَّت الفلسفة والشّعر تجلّيين للروح، فإن الشّعر تتجلّى فيه الروح بحثًا عن الجمال، بينما الفلسفة فتكون تجلّياتها للبحث عن الحقيقة، فيكون الشعر مساحة من السّيادة المطلقة للعاطفة على العقل، بينما الفلسفة قتل جريء للعاطفة، فلا تزيّف الواقع، بينما يحتضن الشّعر الأوهام كالأم الحنون.
إذن.. لماذا طرد أفلاطون الشّعراء من جمهوريته؟
رأى الفيلسوف اليوناني أفلاطون الشّعر خصماً للفلسفة، وأن حربًا قائمة بينهما، لدرجة أنّه اتّهم أحد محاوريه في كتابه” الجمهوريّة” بأنّه يتحدّث كما يتحدّث الشّعراء، عندما سأله عن العدالة، وكان جوابه غامضًا ومائعًا. فناقش أفلاطون مكانة الشّعر والشّعراء في المدينة الفاضلة وبيّن مكانتهم فيها. على الرّغم من تقديره للفنون كان يخشى من تأثير الشّعر على النّفس البشريّة، فعلمَ أن الشّعر يغذي العواطف بدلا من العقل، مما قد يؤدي إلى اضطراب النّظام الأخلاقي والاجتماعي للمدينة، ويمكن أن يضلّل النّاس عن الحقائق المثاليّة، لأن الشّعراء يمكن أن يحرّضوا على الانفعالات، ويعرّضوا الأخلاق الحسنة للخطر، وعلى الشّاعر أن يسلك سبيل المعرفة الحقيقية، التي تستدعي الجدل وسيلة لإدراك حقيقة الوجود. برغم إقراره أنّه وقع تحت تأثير سحر هوميروس وهيزيود، عندما كان شابّا ولكنه يقرّ أيضًا أنّه أحرق جميع ما كتبه من شعر حين قال لسقراط: “إن الله قد سلب العقل من الشّعراء” ولهذا السبب كان يفضّل استبعادهم من جمهوريته الفاضلة.
سرعان ما أعاد أرسطو للشّعر اعتباره، وللشّعراء هيبتهم في كتاب “فن الشّعر” فقد عدَّه تودوروف كتابًا تأسيسيّا في تاريخ الشّعرية الغربية، وتُرجم إلى العربية منذ القرن الثالث الهجري، فضلًا عن أثره الكبير فيما يتعلق بالشعر من أطروحات فلسفية عربية قديمة، ونظريات النّقاد العرب، في هذا الكتاب طرح مفهوم المحاكاة، التي فسّرها على أنّها قفز على الواقع التاريخي نحو الكلّيات والماهيّات الفلسفية، إذ يرى أرسطو: “بأن مهمة الشاعر الحقيقي ليست في رواية الأمور كما وقعت فعلا، بل رواية ما يمكن أن يقع، والأشياء الممكنة، إمّا حسب الاحتمال أو حسب الضّرورة، ذلك بأن الشّاعر والمؤرخ لا يختلفان، لأن أحدهما يروي الأحداث شعرا والآخر يرويها نثرًا، وإنما يتميزان بكون أحدهما يروي الأحداث، التي وقعت فعلًا، والآخر يروي الأحداث التي يمكن أن تقع” (أرسطو: فن الشّعر). من أجل هذا انتصر أرسطو للشّعر، فقال: “ولهذا كان الشّعر أوفر حظّا من الفلسفة، وأسمى مقامًا من التّاريخ، لأن الشّعر بالأحرى يروي الكلي، بينما التّاريخ يروي الجزئي” (المصدر نفسه).
لماذا جلجامش؟ 
جلجامش ليست أسطورة بل ملحمة، وتعدُّ أقدم نص أدبي يعود إلى الحضارة السّومرية، مزج الخيال بالواقع، وجلجامش ليس شخصية أسطوريّة، بل هو الملك الخامس لمدينة أوروك السومرية، عاش في حدود 2750ق.م، كُتبت عنه الملحمة بصيغتها البابليّة المكوّنة من ثمانية ألواح تناول الإنسان البسيط برؤاه وبداياته التي كشفت عن صراع الإنسان مع ذاته، ومخاوفه الأزليّة، والتشّكل الأولي لوعيه، وحتميّة الموت، من خلال سرد رحلة جلجامش في البحث عن الخلود، ليكتشف خلالها أن العشبة الإكسيرية ليست في شيء ولن تخلد جسده؛ إنما ابتكار الأثر قد يكون صيغة ممكنة من صيغ الخلود، وارتأى هذا عبر الحرب والشعر والحكمة والفلسفة والأخلاقيات الإنسانية والعمل والعدل والإمبراطوريات؛ ما يمنح حياة جديدة، فيخلد الإنسان عبر رحلة العطاء، ويرحل لتبقى سيرته، وأعماله شاهدة عليه.
“هو الذي رأى كلّ شيء في تخوم البلاد
عرفَ البحارَ، وأحاط علمًا بكلّ شيء،
كما نفذ ببصره إلى أشد الأسرار غموضًا،
امتلكَ الحكمةَ والمعرفةَ بجميع الأشياء،
واطّلع كذلك على المكنون، وكشف عن الأمور الخافية” (ملحمة جلجامش: ترجمة عبد الغفار مكاوي)
لماذا الإلياذة؟ 
الإلياذة، الملحمة الشّعريّة لهوميروس، تعدُّ واحدة من أعظم الأعمال الشّعرية الأدبيّة في الثّقافة الغربية، تروي قصة بضع أسابيع في السّنة الأخيرة من حرب وحصار طروادة، مركّزة على غضب البطل أخيل. ما يميزها عدا كونها قصة ملحميّة تستعرض الشّجاعة وتقبّل المصير، العدالة، والتأملات في الطبيعة البشرية، الشّرف، والمأساة الإنسانية هو استخدام الشّعر لتصوير الشّخصيّات والأحداث بطريقة تثير العاطفة وتعكس القيم الإنسانية العميقة.
لماذا منهج القرآن الكريم “الشّعراء يتبعهم الغاوون”؟
القرآن الكريم لم يكره الشعر بشكل مطلق، بل ناقش دور الشّعراء بنقد اجتماعي وأخلاقي، واستثنى الشعراء، الذين تتوافق رؤاهم مع القيم الأخلاقية والدينية، لنقول إن الشّعر النبيل الذي يساير القيم هو تاج الشعر.
في النصّ الكريم: “والشّعراء يتّبِعُهمُ الغاوون*ألَمْ ترَ أنّهُم في كلّ وادٍ يَهيمُون* وأنّهُمُ يقولونَ مالاَ يفعلون” (سورة الشّعراء، الآيات 224، 226)
قدّمت الآيات نقدًا لبعض الشّعراء الذين يُعتبرون مضللين للنّاس، أي أنّهم يجذبون أتباعًا -حسب ثقافة العصر الجاهلي آنذاك- لا يفكّرون بعمق أو يسهل تضليلهم، فهم يتجوّلون في كلّ مكان (وادٍ) ويتحدّثون بدون هدف واضح أو مسؤولية، وتتأكد عدم الاستقامة في مدلولاتهم لأنهم “يقولون ما لا يفعلون”، فانتقد القرآن الكريم الشّعراء الذين يستخدمون شعرهم لنشر الأفكار المضللة عن الحق أو الزّائفة لأغراض سيئة، واستدرك باستثناء “إلا الذين آمنوا، وعملوا الصّالحات، وذكروا الله كثيرا” (سورة الشعراء، الآية 277) فلا يمنع الإنسان أن يملأ قلبه بالجمال، لأن الشّعر ديوان العرب.
لم يكن هنالك هويّة إبداعيّة واحدة للتراث الشّعري العربي، وكان الاختلاف لصالح التنوّع والتّمايز إلى درجة التناقض، وإن بدا الخطاب التراثي يقوم في منظوراته على إرادة توحيد التراث ووحدته، في هوية (الواحد)، ولا نجد في التراث من حيث المادة الشعريّة ما يمكن أن تعطيه هذه الهوية إلا الوزن والقافية، وفي هذا التنوع والتناقض تكمن أهمية التراث وعظمته.
عبَر الشعر حداثات متعددة حسب الشاعر اللبناني (شوقي بزيغ، في كتابه مسارات الحداثة/ الشّعرية وآفاقها) فانتقل من حداثة النبرة الخطابية العالية دفاعًا عن روح الأمة، إلى حداثة الرّهافة والغنائيّة المفردة ونزعة التّأنيث، وحداثة النّص المفتوح، ومن ثم حداثة محاكاة الاتّجاهات الغربية (الكلاسيكية، والرومنطيقية، والبرناسية) سيّما أولئك الشّعراء المُنضوين تحت لواء مجلات (أبولو، وشعر، والطريق، والآداب، والمواقف)، فقد عُدّ الشعر صوتا للمقاومة والتغيير الاجتماعي، عندما يستخدمه الشّعراء للتعبير عن الاحتجاج وتحدّي الظلم، وقد اتُخّذ منبراً يوحّد النّاس في أوقات الأزمات، أو المعاناة الاجتماعية، أو حتى الانتصارات.
لماذا مهابهاراتا؟ 
المهابهاراتا واحدة من الملحمَتين الكُبريين المكتوبتين بالسنسكريتية في الهند القديمة، الأخرى رامايانا، حيث أن الأولى أطول قصيدة ملحمية في العالم باحتوائها على أربعة وسبعين ألف سطر شعري، وقطع نثرية طويلة، فيها مليون وثمان مائة ألف كلمة، تبلغ عشرة أضعاف حجم الإلياذة والأوديسة، يدّعى أنّه لا يوجد ملحمة أطول منها باستثناء الملحمة التبتية، والملحمة القرغيزية، وتشكل جزءا هاما من الميثولوجيا الهندية، العنوان يعني حكاية سلالة بهارتا العظيمة، تتضمّن تقليداً راسخاً، يحاول تفسير العلاقة بين الفرد والمجتمع والعالم، ومحاولة لمناقشة الأهداف الإنسانية، (أرثا: الغرض، كاما: المتعة، دارما: الواجب، موكشا: التّحرّر).
ويظل الشّعر فناً جمالياً له فلسفته ومذهبه الخاص في الحياة، يستنفذ فيه المضمون الروحي للشّاعر بكل امتلائه وعمقه، حسب رأي هيجل في فن الشّعر: “بالنظر أخيرا إلى أن الشّعر قادر على استنفاذ المضمون الروحي بكل امتلائه وعمقه، فمن المباح لنا أن نطالب الشّاعر، بأن تكون خبرته بالموضوع الذي يريد معالجته رحيبة وعميقة إلى أقصى حدّ ممكن، وأن يكون قد عاش هذا الموضوع ودمَجَه بأناه، بعد أن استوعبه وتعمقه، وبدّل هيئته”.( هيجل: فن الشّعر، 1981، ص 57)
يُعلن الشّعر عن أنوية الشاعر، التي ينتصر فيها لذاته اللجوجة، ويدرك الحقائق الذّهنية والفكريّة والخياليّة؛ لذا يتقدّم النهضة الفكرية والعاطفية، حينما يثبت مقدرته على الرفع من الأخلاق والقيم والأذواق، فيظل الشعر نصًّا خالدًا متعاليًا لا يُمتَلك، تحوطه هالة براقة من المعاني الجميلة.