سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

كيف ينظر النظام السوري إلى عفرين وأهلها؟!

تحقيق / باهوز أحمد –

في مثل هذه الأيام من العام المنصرم، فقدَ الرضيعين حيدر عبدالله وبيرم داد حياتهما في مخيمات الشهباء حيث يقطنُ مُهجري عفرين، وسبب الوفاة آنذاك كان عدم قدرة الكادر الطبي إسعاف الرضيعين إلى مشافي حلب، نتيجة عوائق أمنية وضعها النظام السوري أمام حركة أهالي عفرين في هذه المنطقة الجغرافية الصغيرة التي لا تبعد سوى 7 كليو مترات عن مدينة حلب، هذه الإجراءات الكيفية للنظام السوري لم تتوقف منذ عام رغم المناشدات التي أطلقها أهالي عفرين الذين هُجروا من ديارهم تحت وقع قذائف الاحتلال التركي للمنظمات الدولية لتقديم يد العون لهم، واليوم ارتفع عدد الذين فقدوا حياتهم خلال عام ونيف نتيجة إغلاق الطرق من قبل النظام إلى 50 شخصاً جُلهم من كبار السن والأطفال، ولكن الأخطار من ذلك هو فرض النظام حصاراً اقتصادياً ونفسيّاً على هذه المنطقة والتي ينظر الأهالي لها على أنها عقاب نتيجة مقاومتهم ورفضهم الاستسلام.
سبعة كيلو مترات تختصر ذهنية النظام القاتمة
رحلة السبع كيلو مترات بين مدينة حلب والشهباء الواقعة بالجهة الشمالية الغربية للمدينة، تستغرق أكثر من ساعتين، العم سليم في العقد الخامس من عمره، عزم أمره لزيارة أبنائه في الشهباء، ويسرد تفاصيل تلك الرحلة القصيرة والمؤلمة بالقول “حاولت المجيئ إلى الشهباء عدة مرات لكن في غالبية الأوقات كان أفراد النظام في الشيخ نجار يمنعوننا، وفي المرة الأخيرة استطعنا الدخول بعد ترسيم سيارتنا”، الترسيم هنا يعني دفع مبلغ مالي معين لقاء دخول السيارة بغض النظر إن كان الهدف تجارياً او مدنياً أو طبياً، وطبعاً هذا الترسيم لا يشمل الإكراميات المقدمة على الحواجز التي يزيد عددها عن خمسة حواجز، إضافة لأجرة السيارة، ويروي العم سليم مشاهدته على الطريق “تعامل حواجز النظام مع المدنيين غير لائق وفي بعض الأحيان يعملون على تحطيم نفسية الإنسان، انا دفعت 14 ألف ليرة سورية فقط لعبور 7 كيلو مترات ورؤية أولادي، ولا يسمح لي البقاء هنا في الشهباء إلا عدة أيام”.
 استثمار وابتزاز سياسي لحالات إنسانية
هذه المشاهدة القصيرة لشخص كردي يقيم في حلب على آلية دخول وخروج المدنيين من الشهباء، ربما تشرح الكثير عن نظرة النظام السوري لهذه المنطقة، إذ يعتبر النظام هذه المنطقة غير آمنة، رغم الانتشار الملحوظ لحواجزه وفرق الجيش في تلك البقعة الجغرافية التي حررتها القوات الثورية ووحدات حماية الشعب مطلع عام 2017 من مرتزقة الاحتلال التركي، وبعيد احتلال تركيا لمقاطعة عفرين بعد مقاومة دامت 58 يوماً في وجه الطيران والمدفعية التركية، خرج الأهالي تحت وقع سقوط القذائف عشوائياً، وتوجهوا إلى الشهباء، حيث انتشرت وحدات جيش النظام وأخرى روسية وإيرانية آنذاك في هذه المنطقة بحجة حماية النازحين وتقديم المساعدة لهم، لكن تعامل النظام السوري مع هذه المنطقة يظهر العكس تماماً، ويمكننا تشبيه المنطقة بسجن كبير يحاول السجان إرضاخ نزلائه واستثمار قضيتهم سياساً وفي بعض الأحيان ابتزازهم دون أي رادع أخلاقي.
اليوم تشرف الإدارة الذاتية لإقليم عفرين على تنظيم هذا الشعب وتقديم الخدمات والمستلزمات الأساسية له، دون أن تنتظر أي مساعدة من النظام السوري أو المنظمات المتعاملة معها، رغم أن هذا النظام يتقاضى ملايين الليرات شهرياً من الأمم المتحدة بحجة تقديم الخدمات لهؤلاء المُهجرين من مدينتهم عفرين الكردية، وأقامت الإدارة الذاتية لإقليم عفرين خمسة مخيمات لإيواء أهالي عفرين المهجرين ومنع تشتهم بهدف التنظيم وإعادة تحرير مدينتهم من الاحتلال التركي.
 الهدف ضرب تنظيم الشعب وتماسكه
هذا التنظيم الشعبي هنا، والذي أظهر تماسك هذا الشعب بغض النظر عن انتمائه العرقي والديني، انعكس سلباً على مخططات النظام السوري، الذي حاول منذ اليوم الأول من هجرة أهالي عفرين، تشتيت هذا الشعب واللعب بعواطفه وفرض الاستسلام عليه عبر ترويج ما يسمى بالمصالحات والتحاق الشبان بجيش النظام، إضافة لأساليب عدة مختلفة مثل الترويج للمخدرات والدعارة وإطلاق يد بعض المجموعات المسلحة الصغيرة المرتبطة بها بهدف السلب والنهب في بعض المناطق المتاخمة لبلدتي النبل والزهراء، لكن كل هذه الممارسات لم تفي بالغرض، لذا لجئ النظام السوري إلى أسلوب العقاب الجماعي وإن صح التعبير الاستنزاف المادي والبشري على المدى المنظور للكتلة البشرية والتنظيمية الموجودة في الشهباء.
ولجأ النظام منذ شهر تموز من العام المنصرم، إلى سياسة استثمار الطرق وفرض الضرائب ، والمواد الأساسية التي يفرض عليها الضرائب وبشكلٍ فظيع هي ” مادة الطحين والمواد الغذائية المختلفة، إضافة للمحروقات”، وهذا يتنافى تماماً مع المعاير الدولية فيما يخص حماية النازحين وتقديم الرعاية لهم، وبحسب المعلومات المؤكدة التي حصلنا عليها من التجار ولجنة الإغاثة في مجلس مقاطعة عفرين، أن معدل الضرائب على المواد الغذائية والطحين يزيد عن المليون والنصف للطن الواحد من الطحين، وتذهب هذه الضرائب إلى خزينة الفرقة الرابعة السيئة الصيت التي يرأسها شقيق بشار الأسد رئيس الجمهورية، ولتبرير هذه التصرفات المنافية للأعراف الدولية والإنسانية، يتحجج النظام بأنها أفعال شخصية ولا يوجد قانون في الدولة ينص على ذلك، ولكن هذه الضرائب تفرض بعلم الجهات الأمنية والسياسية العليا في نظام الأسد على هذه المنطقة وبدرجة أقسى من تلك التي تفرض على المعابر مع المناطق المحتلة من قبل تركيا، وهو ما يُشير إلى أن النظام السوري ينظر إلى أهالي عفرين في الشهباء على أنهم ليسوا سوريين وتتعامل معهم وفق رؤى سياسية بعيدة كل البعد عن القيم الوطنية السورية، وهو ما يثير تساؤلات كثيرة في بال هذا الشعب حول مبادئ النظام السوري وتمسكه بوحدة الجغرافية السورية؟ إضافة لاستفسارات عدة عن الدور السوري في احتلال تركيا لعفرين وعن الدرس الذي يجب على الحكومة السورية استنباطه من احتلال عفرين وتأثيره على مستقبل سوريا سياساً وجغرافياً؟!.
 وهنا يجدر بالذكر أن الإدارة الذاتية تعمل على تقديم ربطة الخبز بسعر 25 ليرة سورية فقط للنازحين والمقيمين في الشهباء دون التميز بينهم، رغم أن تكلفة الربطة الواحدة على الأفران هي 205 ليرة سورية، وهنا تتحمل الإدارة فارق السعر وهذا مثال بسيط على الفارق الأخلاقي والوطني بين الإدارة والنظام.
الضرائب المفروضة من قبل النظام السوري على المواد الداخلة إلى الشهباء والتي تخدم النازحين والمهجرين بالدرجة الأولى، لها أسباب سياسية وأخرى اجتماعية، إذ يحاول النظام السوري فرض الأمر الواقع على الشعب الكردي ويحاول خلق صفقات تجارية بين التجار المرتبطين بها وبين بعض التجار في مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، على حساب شعب عفرين، إضافة لأن وجود هذا الشعب هنا يجلب للنظام السوري مساعدات هائلة مقدمة من الأمم المتحدة وبرنامج الأغذية العالمي وبعض المنظمات الدولية المتعاملة مع الأمم المتحدة، ويعمل النظام والمسؤولين فيه إلى سرقة هذه الإعانات وهناك وثائق عدة تثبت ذلك.
 قرارات تُعيق عمل المنظمات الدولية
وعمل النظام السوري على تحجيم مخطط عمل بعض المنظمات الخدمية التي كانت تخطط لإمداد مخيمي العودة ودير جمال “الشهباء” بالحمامات المسبقة الصنع، لكن لم توافق الجهات الأمنية على ذلك بحجة عدم توفر الأمن هناك، إضافة لإقرار النظام السوري لقرار يمنع دخول المواد الخاصة بالمنظمات المتعاقدة مع الأمم المتحدة إلى الشهباء إلا بعد موافقة خطية من وزير الإدارة المحلية في حكومة النظام، بعد أن كانت الموافقة محصورة بمحافظ حلب فقط، وهنا يهدف النظام من هذا الإجراء إلى تعقيد الأمور، ودفع المنظمات الجادة بالعمل لإدخال تلك المواد عبر التجار وبالتالي دفع الضرائب للنظام السوري، وبالفعل توفقت عدة مشاريع لوضع خزنات المياه العامة في بعض القرى التي يقطنها نازحوا عفرين، إضافة لتصنيع الأبواب والشبابيك للبيوت المتهالكة من قبل منظمة تابعة للأمم المتحدة بعد هذا القرار.
 أزمات معيشيّة تدفع الأهالي للهجرة
وتعاني مقاطعة الشهباء من غلاء في أسعار المحروقات من البنزين والمازوت بعد منع النظام السوري من دخول هذه المواد إلى المنطقة بين الفينة والأخرى، ورفع الضرائب المفروضة على الصهاريج، إذ كان حاجز الفرقة الرابعة يتقاضى مبلغ مليون ونصف ليرة سورية عن كل صهريج مطلع هذا العام، لترفع الإتاوات قبل أشهر وتعدت تلك الضرائب حاجز الأربع مليون ليرة سورية، وهو ما خلق أزمة اقتصادية هنا في هذه المنطقة التي من المفترض على النظام السوري دعمها لوجود النازحين فيها، لكن ذهنية المافيات التي تحكم النظام تدفعه لاستغلال أبسط مقومات الحياة في المنطقة التي باتت اليوم القلعة الوحيدة في الشمال السوري المجابهة للاحتلال التركي للأراضي السورية وإحدى أهم الجبهات العسكرية التي تحاول منع تقسيم جغرافية هذا البلد.
حتى العاملين في القطاع العام بالدولة السورية من أهالي عفرين لم يسلموا من القرارات التعسفية والمدروسة بدقة فائقة، إذ قالت منظمات تعنى بحقوق الإنسان أن النظام السوري وضع العاملين في المؤسسات المختلفة أمام خيارين أم التوجه إلى حلب أو فصلهم من الوظيفة، رغم ان النظام يمنع دخول أهالي عفرين إلى حلب إلا بموجب موافقات أمنية معينة ولأشخاص معينين، وأوردت تلك المنظمات أن أكثر من 160 موظفاً تم فصلهم من العمل لعدم قدرتهم على الالتحاق بوظيفتهم في مدينة حلب، وأخرون تم منحهم إجازة مفتوحة بدون أجر وقدر عددهم بأكثر من 2900 موظف، أي باتوا عاطلين عن العمل وهم ينقسمون بين مقيمين في الشهباء وأخرون متواجدون في عفرين.
هذه الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية، تنعكس بشكلٍ مباشر على الحالة المعيشية للأهالي، وهذا يخلق نوعاً من عدم الاستقرار النفسي وبالتالي التفكير في ترك هذه المنطقة بوساطة مهربين موالين للنظام وجلهم من بلدتي نبل والزهراء، وكان أخرها تلك الحافلة التي تعرض ركبها لإطلاق نار من قبل جنود جيش النظام بالقرب من قرية تلجبين المحاذية لبلدة نبل، وهذا يدل على أن النظام لا يأبه لموضوع تحرير عفرين، رغم أن وجود هذا الشعب هنا يشكل حزاماً بشرياً وخط دفاع عن مدينة حلب التي ما زالت مهددة من قبل الاحتلال التركي.
 تركيا والنظام السوري وجهان متطابقان في السياسة ومتغايران في الأدوات
سياسة النظام السوري المُطبّقة على أهالي عفرين في الشهباء لا تختلف كثيراً من حيث المبدأ والهدف عن سياسة الاحتلال التركي في عفرين، فتركيا تبني جداراً إسمنتياً لتقسيم سوريا أمام مرأى النظام السوري، ويساهم الأخير في تضييق الخناق على ذاك الشعب المناضل ضد الاحتلال، ولكن هذا الشعب رغم كل هذه المضايقات مازال يمتلك أوراق قوة تؤثر على توازنات السياسة والميدان في الشمال السوري، وهو ما سينعكس قريباً على مستقبل سوريا وفق أسس ديمقراطية يفرضها الواقع والنضال.