سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

كيف قام حزب العمال الكردستاني بملء الفراغ الفكري الموجود في الشرق الأوسط؟ ـ2ـ

أحمد بيرهات (الرئيس المشترك لمنتدى حلب الثقافي)_

السياسة الاستعمارية التي تتبناها النظم الاحتلالية وتدعمها الحداثة الرأسمالية تبقى مرتهنة في بقائها واستدامتها بإنهاء وإنكار الشعوب.
لقد أثبتت هذه الحركة الثورية النهضوية بأن هذه الأنظمة فانية بحكم قراءتها ودراستها لديالكتيك التاريخ التي تؤكد أنَّ الشعوب هي المنتصرة لا مُحال والأشخاص والأنظمة الظالمة إلى متاحف التاريخ لا محالة.
حملة الخامس عشر من آب التي يمكن وصفها بالتاريخية قد أسست للانتفاضات التي تلت العمليات العسكرية والمقاومة الشرسة التي أبداها مقاتلي حركة حرية كردستان التي أعلنت أنه لا رجعة إلى الوراء بعد الآن، بل السير والنضال قُدماً نحو الأمام وتنظيم الشعوب في كافة المجالات الاجتماعية والسياسية والدفاعية وتنويرها على أسس فكرية وتنظيمية.
يُستنتج من كل ما ذكرناه أن هذه الحركة التحررية قد هزَّت أركان وعرش الأنظمة المحتلة لكردستان معلنةً انبعاث الكرد من جديد وأهمية خوض النضال مع حركات التحرر في المنطقة والعالم لإنهاء الظلم والطغيان وبناء نظام عادل.
ولا يفوتنا في هذه الحيثية ما قامت به حركة حرية كردستان عام 1987 بالانطلاقة التنظيمية الأولى للمرأة، ومن ثم تجييشها من خلال تنظيمها في كتائب عسكرية عام 1993 التي أدت إلى تشكيل وحدات المرأة الحرة ـ ستار، واستكمل بتأسيس حزب خاص بالمرأة بعد 1998 مما شكّل كل ذلك انعطافاً من تحول قضية المرأة إلى علم خاص “جنولوجيا” “علم المرأة” عمل عليها القائد والمفكر عبد الله أوجلان لإعطاء المرأة القيمة السامية التي تتمتع بها أساساً.
لقد عمل حزب العمال الكردستاني كما مر معنا على تأسيس الشخصية الثورية وفق صفات وخصائص جُمعت في كتاب وبات دليلاً ومرجعاً للشخصية المناضلة في صفوف حزب العمال الكردستاني، مستخلصةً من تجارب رفاقهم المناضلين في خضم الملاحقات ومقاومات السجون ونضالهم التعبوي والتحضيري والدعائي في بداية تأسيسه ومازالت هذه الصفات تحافظ على وجودها وينهال منها كوادر ورفاق هذه الحركة وتتجدد باستمرار للحفاظ على ديمومتها المجتمعية، فما قام به حزب العمال الكردستاني يُمثل آمال وطموحات، سعى وناضل من أجلها البسطاء والمظلومين خلال آلاف السنين من نضال شعوب المنطقة، وهذا يعني أن ما أسسه هذا الحزب يشكل نهضة وتحول ديمقراطي في الشرق الأوسط من جديد.
هذه الحركة قد حدَّثت النضال الأممي وبُنيت على ذلك، فالمؤسسون لهذه الحركة هم من قوميات وشعوب مختلفة ومتعددة، وكان للبيئة التي ولِد وخرج منها القائد عبد الله أوجلان دوراً كبيراً في بناء المشروع الذي تبنته حركة حرية كردستان، المعتمد على الوحدة في الاختلاف والتنوع، ولا ترى في الحدود عائقاً أمام تشكيل إدارات تمثل الشعوب ضمن أطروحة الأمة الديمقراطية، فالحدود ستزول مع فهم وإدراك الأفراد والجماعات لحقيقتها ومعنى الحياة التي تُنشدها ويعيش لأجلها كقيمة سامية.
حزب العمال الكردستاني ومفهومه للثورة
تعتبر الثورة وفق مانيفستو وأيديولوجية حزب العمال الكردستاني العمل والنضال بهدف الوصول إلى مرحلة أكثر تقدمية كما هي في المراحل التاريخية المعروفة وبعد الدراسة المتأنية للظروف الاقتصادية الخانقة والوعي الثوري الذي من المفروض أن يتمخض عنها بفضل النشاط الثوري ووجوب وجود حزب ثوري له رؤية فكرية وسياسية وأهداف واضحة تقودها مجموعة ثورية، وعلى هذا الأساس عملت هذه الحركة التحررية الكردستانية منذ بدايتها وبالأسماء المتعددة التي حملتها من (المجموعة الثورية الأولى المؤلفة من ستة أشخاص إلى “الجمعية الثقافية للشرق” إلى “ثوار كردستان” و”الآبوجية” و”جيش الخلاص الوطني”) وتجاوزت هذه الأسماء بالإعلان الرسمي التي وضعت حداً لكل هذه التسميات والإعلان رسمياً عن “حزب العمال الكردستاني” في 27-11- 1978 وبذلك بات هذا الحزب يمتلك خطاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثورياً أكثر نضجاً ومتانةً، قام بموجبها بالنضال المكثف ضمن الجماهير وتوسيع العلاقات وتشكيل جبهة أممية مع بعض الفصائل والحركات اليسارية في تركيا وكردستان والشرق الأوسط دون الانقطاع في العمل على تطوير الشخصية الثورية وصفاتهم الكادرية “القدوة”.
وفق ذلك توصلت هذه الحركة إلى نتيجة مفادها أنه:
عندما يصعب تشخيص وتحليل الواقع بشكلٍ جدي وعدم وضع منهج وبرنامج واضح المعالم لن تكون هناك ثورة حقيقية بمعناها القيَّمي، وخاصةً مع زيادة التناقض والجدل في ذلك، فلن يكون هناك شيء يسمى بالثورة، ففلسفة التاريخ تعلمنا أن الثورة ليست نتاج شخص أو مجموعة ثورية أو طبقية فقط، بل الثورة تتقدم وتستمر وتتخذ شرعيتها من مدى موضوعيتها وشعبيتها ومدى تعبيرها عن مطالبها الأساسية في جانبيها المادي والمعنوي.
فالثورات التاريخية الكبرى، بدءاً من ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس في روما إلى ثورة الزنج والقرامطة في العراق مروراً بالثورة ضد الملكية في فرنسا وثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا والثورة الفيتنامية والكوبية وغيرها تعلمنا الكثير عن القيم العديدة والثرية التي حملتها هذه الثورات، والتي تجتمع كلَّها في الثورة الكردستانية كجميعة وحالة تراكمية حالياً.
فالظروف الاقتصادية وحدها لا تصنع الثورات كما بيَّنها وروَّج لها الكثير من الفلاسفة وقادة الثورات فوعي هذا الفقر إضافةً إلى التشخيص الصائب والصحيح للظروف الموضوعية والذاتية والبرنامج السياسي والفكري الموضوع والناضج سيخلص الشعوب من النظم الحاكمة الأوليغارشية لثورتها وتوصلها إلى النصر المؤزر.
العوامل التي اعتمدت عليها حركة حرية كردستان في استمرار ثورتها وتمددها لتكون نواة لنهضة شعوب الشرق الأوسط ويمكن تلخيصها في عدة نقاط وهي إن:
1- هذه الحركة عملت عبر نضالها بتجاوز حاجز الخوف من خلال تنظيم الشعب وإيجاد اتحادات ومجموعات ثورية منظَّمة في كل المؤسسات الرسمية والمدنية وفي جميع أماكن نشاطاتها وفعالياتها وهذا ما أسس لوعي وطني اجتماعي مترابط ومنظم وإيمان قوي بإمكانية النصر والوصول إلى الهدف المنشود في تأسيس إدارة تمثلهم وتهزم السلطة الحاكمة معنوياً كخطوة أولى.
وجديرٌ بنا أن نصوغ قولاً مأثوراً لقائد ثورة العبيد سبارتاكوس: “مجرد معرفة الذات فقد انتصرت الثورة” إن فهم وإدراك هذا القول يحمل أهمية قصوى، وقد عملت عليه حركة حرية كردستان، فكانت تدرك أن الجهل والفوضى دائماً تخدم النظم الحاكمة الأوليغارشية المرتبطة بالرأسمال المالي الاحتكاري.
هناك عامل آخر يساهم في انتصار الثورة وهي المشاركة النسبية العددية، فحسب الإحصاءات التي قامت بها بعض مراكز الأبحاث؛ فإن مشاركة 4% من السكان في الثورة والاحتجاجات تضمن تغير سياسي حقيقي وبحسب هذه الإحصائية المذكورة فإن النسبة وصلت إلى 53% فالمقصود هنا أن القاعدة الاجتماعية هامة جداً وهي موجودة ضمن الثورة الكردستانية التي قادها وما يزال يقودها حزب العمال الكردستاني تحت مظلة منظومة المجتمع الكردستاني KCK. والعامل الآخر لانتصارها هو ضرورة وجود قيادة كاريزمية أمثال القائد أوجلان ورفاقه من الجيل والرعيل الأول لحركة حرية كردستان. إضافة إلى عامل استمرارية النشاطات المتعددة من حالات الإضراب عن الطعام والاحتجاجات والانتفاضات الجماهيرية في مناطق كردستان كجزرة ونصيين وآمد وسرحد وغيرها من المدن وإشعال المناضلين النيران بأجسادهم وفدائيتهم هذه أسست لثقافة المقاومة التي لا تنهزم رغم كل الظروف الصعبة التي يواجهونها.
فما أسفرت عنها نتائج إضرابات مقاومات سجن آمد في والانتفاضات المندلعة في ثمانينيات وتسعينات القرن الماضي وإضراب المناضلات كليلى كوفن ورفاقها والعمليات الفدائية لسارة وروكن ورجهات زيلان وآردال شاهين في السنتين الأخيرتين إلا دليل على إدراكهم لحقيقة المرحلة والابداع في أسلوب فتح الانسدادات الصعبة التي تضعها السلطات الدكتاتورية والفاشية أمام نضال هذه الحركة الثورية.
هذه الأخلَّاقية ساهمت ولعبت دوراً أساسياً في طرح قضايا الثورة الأساسية ولتطفو على السطح مجدداً وعلى كل الساحات الإقليمية والدولية رغم التعتيم الإعلامي الكبير على مكتسبات هذه الحركة وهذه العمليات الفدائية النوعية.
حزب العمال الكردستاني ورؤيته الاستراتيجية في انتصار الثورة
تعتبر الثورة التي يقودها حزب العمال الكردستاني ثورة تغيير الذهنية والعلاقات الاجتماعية القائمة منذ بداية تأسيسها للوصول إلى ذهنية مشتركة ثقافية تناشد الحرية كمسؤولية إنسانية بهدف تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية واسترداد الحقوق والتوزيع العادل للثروة، فمناهضة العقليات والذهنيات الفاشية والقوموية والنيوليبرالية الجديدة (وجميعها من إفرازات سياسات الحداثة الرأسمالية) التي تعمل لضمان استمرار وجودها، فإفشال المخططات والسياسات التي تتبناها هذه العقليات التي تشكل “ورماً سرطانياً” يستهدف الشعوب وتعاضدهم.
فالثورة لا يمكن أن تنجح ولا يمكن أن تحمل هذا الاسم دون القيام بالتغيير الجذري لذهنية النظام السياسي الحاكم والقائم بكل مؤسساتها ومرتكزاتها وتغيير دستور الدولة المعمول بها ونظامها الأمني وطرح البديل عنها بما يصون ويؤمن مصالح الشعب وتثبيت ذلك ضمن دستور ديمقراطي منبثقة من ثنائية العقد الاجتماعي للشعوب مع قانون الدولة لتوضع كدستور ديمقراطي ضامن وفق معادلة الدولة الديمقراطية وهو بالتحديد ما يطرحه القائد عبد الله أوجلان في مشروعه الحضاري والديمقراطي في تحقيق الأمم الديمقراطية.
وهنا نتوصّل إلى الاستنتاج التالي إن:
الشعوب هي من تصون ثورتها وتقودها طليعتها الثورية التي تمثلها الكوادر المتقدمة لهذه الحركة لتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحياة الندية التشاركية الحرة.
وعلى هذا الأساس يمكننا القول إن:
حركة حرية كردستان تعيش الثورة دائماَ وهي الثورة بحد ذاتها فقد أسست للوعي المجتمعي وهيئت الجماهير لخوض نضالها بوعي وإرادة وإيمان لا يتزعزع وثُقلت بالفكر التنويري لعالم علم الاجتماع الحديث عبد الله أوجلان عبر مانيفستو الحضارة الديمقراطية بمجلداته الخمسة وما تعيشه الشعوب من تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية الرائدة في مناطق شمال وشرق سوريا إلا دليلٌ على ما نقوله، وقد عملت عليها حركة حرية كردستان وقد عرّجنا عليها بشكلٍ موسع من خلال مقالنا البحثي هذا.
فالسير نحو تحقيق الحرية والديمقراطية بات عقيدة لدى كوادر وأنصار ومحبي حركة حرية كردستان وشعارها باتت ولادة ثورات ضمن الثورة الأساسية التي أعلنتها في بداية سبعينات القرن الماضي. هذه الثورة الذهنية والمعرفية وثورة الأخلاق والاعتماد على الذات والحماية الذاتية وثورة المرأة وكل ذلك مُهد لها بعناية فائقة من القادة الأوائل للحركة ورسخ ذلك بتضحيات الآلاف من الشهداء.
بعد كل ما أشرنا إليه يمكننا القول إن حزب العمال الكردستاني يمثل ثورة الوجود والحرية والسير نحو تحقيق آمال الشعوب في الديمقراطية على جغرافية الشرق الأوسط التي ستؤسس للحضارة الديمقراطية مجدداً.