كركوك مدينة التعايش المشترك

دجوار أحمد آغا – 

الكرد ومنذ قدم التاريخ, وهم يخوضون على أرضهم دفاعا مستميتا ضد الغزاة الطامعين بخيرات هذه الأرض والراغبين باستعباد الكرد والسيطرة عليهم وعلى وطنهم. لكن الكرد كشعب شديد المراس والبأس, صاحب إرادة وعزيمة قوية لا تلين, رفض الذل والهوان وقام بالعديد من الانتفاضات والثورات ضد الاحتلال والظلم والقهر المفروض عليه من جانب الغزاة منذ فجر التاريخ وخاصة مع قدوم السلاجقة الاتراك واحتلالهم لموطن الكرد وبقية شعوب المنطقة, فكانت الثورات العارمة ضدهم والتي شارك فيها إلى جانب الكرد كلٌّ من العرب، السريان، الآشور والكلدان, وخير مثال على ذلك ثورة يزدان شير 1853 – 1856.

 لن ندخل في تفاصيل تاريخ الشعب الكردي وشعوب المنطقة, ما يهمنا الآن وما سوف نكتب عنه في هذا المقال, هو منطقة كركوك؛ التي تمر هذه الأيام ذكرى إعادة احتلالها وفصلها عن باشور كردستان (جنوب كردستان), حيث تجري فيها الآن عمليات التعريب والتتريك مرة أخرى وبقوة, فالجماعات المتعصبة الشوفينية من بقايا البعث من جهة والدولة التركية من خلال التركمان وبعض المؤسسات من جهة أخرى تسعى وتعمل جاهدة على تغير ديمغرافية المنطقة وتعزيز وجودها هناك.

أين تقع كركوك .. حدودها .. مساحتها

دعونا – في البداية – نتعرف على موقع هذه المنطقة وتاريخها. تقع منطقة كركوك في جنوب كردستان – أي في باشور-, وهي من المناطق المتنازع عليها بين الحكومة المركزية في بغداد وسلطات إقليم كردستان وفق المادة 140 من الدستور الاتحادي العراقي, تتمتع بموقع جغرافي وتجاري ممتاز أكسبها أهمية كبيرة وذلك لوقوعها بين جبال زاغروس ونهري دجلة والزاب الصغير وسلسلة جبال حمرين ونهر سيروان (ديالى)، تبلغ مساحتها 28 ألفاً و679 كم2، ويبلغ عدد سكانها حوالي مليوني نسمة بشكل تقريبي – كونه لم يجرِ إحصاء فيها منذ عام 1997 وحينها كان العدد بحدود مليون ونصف مليون نسمة – وهم مزيج من الكرد والتركمان والعرب والآشوريين. تبعد مسافة 255 كم عن بغداد العاصمة العراقية شمالاً, تتألف المنطقة من خمسة أقضية، هي: قضاء كركوك – قضاء داقوق – قضاء الحويجة – قضاء كفري – قضاء جمجمال, وعدة نواحي، منها ناحية شوان – ناحية الزاب – ناحية ليلان – ناحية الرشاد – ناحية آلتون كوبري – ناحية تازة …. تُعرف وتشتهر كركوك بقلعتها التاريخية وبآبار نفط بابا كُركُر.

عبق التاريخ

كركوك كانت تُعرف باسم آرباخا، يذكر المؤرخ اليوناني القديم بلوتارخ بأنه “عندما قطعت القوات المقدونية القادمة من سوريا وعبرت نهر دجلة سنة 331 ق.م. اتجه الإسكندر الأكبر بعد معركته المشهورة مع الملك الفارسي داريوش الثالث نحو بابل عن طريق ارابخي أو ارابخا (كركوك) حيث أصلح قلعتها. ويٌضيف بلوتارخ: إن على أرض ارابخي تشاهد نيران مشتعلة دائمة وتغطيها أنهار من النفط”. عُرفت كركوك في عهد الساسانيين بـ “كرمكان” أي الأرض الحارة وهو الاسم الذي يطلقه الكرد على المنطقة (كرميان).

تختلف المصادر التاريخية حول منشأ المدينة وتسميتها فبينما يذكر الباحث العراقي عبد الرزاق الحسني في كتابه “العراق قديماً وحديثاً” بأن الذي أنشأ هذه المدينة هو «سردنابال» ملك الآشوريين، مستنداً في ذلك إلى بعض المصادر السريانية. في حين يذهب الدكتور شاكر خصباك في كتابه «الكرد والمسألة الكردية» إلى أن الكوتيين هم الذي شيّدوا هذه المدينة.

وجاء أيضاً في كتاب « كركوك: لمحات تاريخية » لليلى نامق جاف: أن الكوتيين عاشوا في هذه المنطقة واتخذوا من مدينة «أرابخا» مركزاً لهم، ويعتقد بأنها مدينة كركوك الحاليـة. ورد في «المرشد إلى موطن الآثار والحضارة» للعالميَن الأثريين طه باقر وفؤاد سفر بشأن تسمية كركوك أنها مشتقة من “كُركُر”, وهي اسم بقعة النار الملتهبة خارج كركوك، سمّيت فيما بعد “بابا كُركُر” وقد كانت محيطة بمبعد “أناهيتا” قديماً. ولم يُشر المؤرخون العرب القدامى إلى اسم كركوك باستثناء ياقوت الحموي في “معجم البلدان” وكذلك ابن الأثير في “الكامل في التاريخ” إذ ذكرها باسم “كرخيني” .

كانت المنطقة تتبع لولاية الموصل (باشور كردستان) في الزمن العثماني وبعد نهاية الرجل المريض (السلطنة العثمانية) وتقسيم التركة, أصرت بريطانيا على سلخ هذه المناطق من كردستان وضمها إلى دولة العراق حديثة التكوين والتي ستوضع تحت الانتداب البريطاني وفق عصبة الأمم. السبب الرئيسي كان حقول النفط. في عام 1927 حدث تدفق تلقائي عظيم للنفط في منطقة بابا كُركُر بالقرب من مدينة كركوك.

النار الأزلية

تعرف الشعلة التي تخرج من حقل كركوك أو بابا كركر بــ “النار الأزلية” وهي نار ناجمة عن اشتعال الغاز المنبعث من جوف الأرض بالقرب من الحقل النفطي بسبب وجود تصدعات في القشرة الأرضية. ويرجع تاريخ هذا النار إلى عصور قديمة قبل الميلاد بكثير، وحسب الروايات التاريخية، فمنذ عام 550 ق. م اشتعلت هذه النار من تلقاء نفسها وظلت متقدة إلى يومنا هذا، تتحدى الأمطار والثلوج والرياح ولأنها لا تنطفئ أبداً فقد أطلق عليها هذا الاسم.

وحقل نفط كركوك هو أقدم حقول العراق وهو ثاني أكبر حقل نفطي في العالم بعد حقل الغوار في السعودية من حيث القدرة على الإنتاج بينما هو خامس أكبر حقل على الصعيد العالمي من حيث الحجم.

اكتُشِف هذا الحقل عام 1927 ودخل مرحلة الإنتاج عام 1934 بإدارة شركة نفط العراق تحت إشراف سلطات الانتداب, بعد الانتهاء من إنشاء خط أنابيب من كركوك إلى ميناءي حيفا في فلسطين قبل تأسيس إسرائيل وطرابلس في لبنان. في مرحلة لاحقة كان يتم التصدير عبر ميناء بانياس السوري إلى أن أغلقته الحكومة السورية أثناء الحرب العراقية الإيرانية التي اندلعت عام 1980 ووضعت أوزارها بعد ثماني سنوات.

بداية التعريب ومحاولات التتريك

منذ نشوء وتكوين الدولة العراقية الحديثة والكرد يناضلون من أجل حقوقهم المشروعة والعادلة, لكنهم كانوا دوما يتعرضون للاضطهاد والظلم وتُقمع ثوراتهم وانتفاضاتهم بقوة السلاح والعنف والدمار. ازداد هذا الأمر وطأة على الكرد مع مجيء نظام البعث للسلطة في العراق حيث قام بحملات إبادة ممنهجة بحق الكرد وقاد سياسة تعريب قوية بحق معظم مدن وقصبات كردستان وعلى وجه الخصوص كركوك كونها غنية بالنفط حيث يتبين بالرجوع إلى سجلات إحصاء 1957 أن الكرد يشكلون الأغلبية من سكانها, إلى جانب ذلك قامت السلطات الحاكمة بتغيير اسمها إلى التأميم سنة 1969, كما قامت بسلخ عدة أقضية ونواحٍ منها وألحقتها بمحافظات ديالى وصلاح الدين وغيرها, في سبيل تغيير ديمغرافيتها.

مع اندلاع انتفاضة آذار 1991من مدينة رانية وامتدادها لتشمل معظم مدن الإقليم, وصلت الانتفاضة إلى كركوك في الثامن عشر من آذار, استمرت فيها المعارك لمدة يومين متتالين وفي العشرين من آذار 1991 تم تحرير مدينة كركوك للمرة الأولى في تاريخ الكرد المعاصر, إلا أنها لم تستمر طويلاً فقامت القوات العراقية مرة أخرى بمهاجمة المدن والبلدات الكردية بعد أن قضت على انتفاضة الجنوب, حدثت بعدها الهجرة المليونية وتم تحديد المنطقة أو الجيب الآمن للكرد ومن ثم بعد التدخل الغربي وسقوط النظام السابق.

ما كسبه الكرد في 14 عاماً خسروه في 14 يوماً

 بعد تشكيل مجلس الحكم الانتقالي سنة 2003صدر قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية الذي نص في المادة 58 – وهي المادة الرئيسية التي تبحث إشكالية مدينة كركوك وضرورة اتخاذ التدابير اللازمة بصددها – على إلزام الحكومة العراقية الانتقالية (وعلى وجه السرعة)، باتخاذ التدابير من أجل رفع الظلم الذي سببته ممارسات النظام البائد والمتمثلة في تغيير الوضع السكاني لمناطق معينــة، بضمنها إن لم تكن من أهمها (مدينة كركوك)، من خلال ترحيل ونفي الأفراد من أماكن سكناهم، ومن خلال الهجرة القسرية من داخل المنطقة وخارجها، وتوطين الأفراد الغرباء عن المنطقة، وحرمان السكان من العمل فيها ومن خلال تصحيح القومية ولمعالجة هذا الظلم فقد أوجب النص على الحكومة الانتقالية أن تتخذ خطوات عديدة استناداً للمادة 10 من قانون الهيئة العليا لحل نزاعات الملكية العراقية.

مع إقرار دستور العراق الدائم سنة 2005 جاءت المادة (140 ) لتبت في قضية كركوك ولتؤكد مضامين المادة 58 من قانون إدارة الدولة للفترة الانتقالية وتستكمل تنفيذ متطلباتها التي أوكلتها إلى السلطة التنفيذية العراقية. بقيت الأمور بين مدّ وجذر إلى أن بدأت طلائع إرهابي داعش بالوصول إلى الموصل ومحاولاتها لاحتلال كركوك سنة 2014. نتيجة لانسحاب قوات الجيش العراقي قامت البيشمركة بالتوجه إلى كركوك لحماية المواطنين من هجمات إرهابي داعش حيث استمرت السيطرة على المنطقة حتى الإثنين 16 / 10 / 2017 عندما استعاد الجيش العراقي السيطرة على كركوك في ظل عدم اعتراض الاتحاد الوطني الكردستاني وانسحاب البيشمركة دون قتال ما عدا مجموعة من مقاتلي الكيريلا الذين بقوا لفترة من الزمن ثم انسحبوا من المنطقة. وكان توجه الجيش العراقي وسيطرته على كركوك إحدى النتائج السلبية التي ترتبت على استفتاء الإقليم. مكاسب كثيرة حققها الكرد بعد عام 2003، تمثلت في سيطرتهم على مساحات واسعة من الأراضي في محافظات كركوك ونينوى وصلاح الدين وديالى، فضلًا عن تحكمهم في الحدود والمنافذ الدولية، كالمطارات والمعابر البرية مع تركيا وإيران، يقول الصحافي العراقي علي الحيالي لـ”ساسة بوست” : لو بقي الكرد على حالهم قبل الاستفتاء لكان خيرًا لهم، كانوا يعيشون في حالة قريبة من الدولة، ويضيف الحيالي أن الحكومة العراقية الآن يبدو أنها عازمة على السيطرة على جميع المعابر البرية والجوية للإقليم، ويرى الحيالي أن “ما حققه الكرد في 14 عامًا منذ عام 2003 خسروه في 14 يومًا”، وهو التاريخ الممتد من 15 تشرين الأول 2017 ولغاية 29 من الشهر نفسه حيث خسر الإقليم مناطق كركوك وخانقين وسنجار وغيرها.