سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

كارثة أدبية توشك أن تعصف بحاضرنا الأدبي

حسن عطية جلنبو_


لعلّ البون شاسعٌ جدا بين أدباء الأمس وأدباء اليوم، فليس خافيا على أحد مستوى الانحدار الثقافي، الذي يعتري الساحة الثقافية اليوم، على نحو أسهَم في زيادة الغثِّ، وتفوقه على السّمين في كثير من الأحيان، وبخاصة في ظلِّ غياب “حركة نقدية إلكترونية” إذا جاز التعبير، حيث أصبح الفضاء الإلكتروني هو الوسيلة الأولى والأسرع لنشر الأدب وتلقّيه على نحو سواء، في وقت صار الهدف من النشر هو الاستعراض الأدائي والمهاري وجمع أكبر عدد من التعليقات، و”الإعجابات” على حساب تجويد القطعة الأدبية (شعرا ونثرا) وتنقيحها وتدقيقها، وإخراجها على نحو يليق بالناشر والمتلقّي والمشهد الثقافي معا.

كان الأدب قديما علامة تميّز واقتدار، ولم تكن لفظة (أديب) تُطلق إلّا على من يستحقها مكانةً ونتاجا ودُربةً وأداءً، في حين أتاح لنا الفضاء الإلكتروني أن نُسمّي أنفسنا كما نشاء، ونتقنع بأيّ قناع نريده، بلا حسيب ولا رقيب.

إنّ بروز هذا الضرب من النقد المُشوَّه غير العلمي أدّى بالضرورة إلى وجود “أشباه أدباء” يتسيَّدون المشهد الثقافي، ويسيطرون عليه في مختلف المحافل.

أعود إلى غياب “النقد الإلكتروني” الحقيقي بسبب انشغال النقّاد الحقيقيين بأبحاثهم ودراساتهم وطلبتهم وأدائهم الأكاديمي في الجامعات والمؤسسات الأدبية، وقيامهم بدراسة وتحليل أداء كُتّاب وأدباء وشعراء في الغالب ليسوا مِمّن ينشرون نتاجهم في الفضاء الإلكتروني، من أدباء الطبقة الأولى التي ما تزال تعتمد على النشر الورقي، بعيدا عن الظهور الإلكتروني، الأمر الذي أسهم في تشكيل ظاهرة “شبه نقدية” تقوم على المجاملات الشخصية والعلاقات الخاصة، والمصالح المشتركة، بحيث أصبح الشاعر أو القاصّ والروائي يرسل نتاجه إلى بعض النقاد ليقوموا بدراسته وتحليله (مدحا وتمجيدا) مع عدم قبول أيّ نوع من النقد الحقيقي أو تحديد مواضع الضعف والخلل وإبراز السّقطات والعيوب أو الأخطاء النحوية والعروضية والصياغية وما إلى ذلك، وقد تنشب عداوة بين الطرفين في حال كان الناقد واعيا وصريحا يتعامل مع القطعة الأدبية وليس مع صاحبها.

إنّ بروز هذا الضرب من النقد المُشوَّه غير العلمي أدّى بالضرورة إلى وجود “أشباه أدباء” يتسيَّدون المشهد الثقافي، ويسيطرون عليه في مختلف المحافل، وهذا بالضرورة أدّى إلى انخفاض جودة العمل الأدبي، والذي بدوره سوف يسهم في رسم ملامح انطباع عام سلبي في حال الاتّكاء عليه في تحديد الصورة الأدبية لهذه المرحلة مستقبلا، حين يصبح نتاجنا الحالي جزءا من التاريخ يضاف إلى تاريخ الأدب في العصور السابقة، وقد يجد الجيل القادم مئات الدواوين الشعرية التي تُسمّى شعرا وما هي بالشِّعر، أو تلك التي يقع فيها صاحبها بأخطاء عروضية ونحوية ولغوية وصياغيّة، تحت ذريعة الحداثة والتجديد اللذين لا يعنيان ذلك بكلّ حال.

نحن حقيقة أمام واقع أدبي غير مبشّر بخير إذا استمرّ الأمر على هذه الشاكلة، وما دام المبدع المعاصر يرفض كافّة أشكال النقد والتصويب والتعديل، ويتعامل مع الآخرين على أنه “يجيءُ بما لم تستطعه الأوائل”.

وعطفا على الشق الثاني والمتعلق بالأدب قبل التكنولوجيا وبعدها، فأؤكد على أنّ التكنولوجيا والإنترنت لهما دور كبير في تسهيل النشر الأدبي، وتيسير الوصول إلى المعلومة التي كان من الصعب الحصول عليها سابقا دون اقتناء أو استعارة، لم تكن متاحة للجميع سابقا، فلم يكن بمقدور الجميع أن يصل إلى أيّ كتاب بسهولة والاطلاع عليه، إمّا بسبب عدم القدرة على اقتنائه، أو بسبب جغرافية المكان وقربه من مراكز المدن الثقافية أو بعده عنها، في حين أصبح بالمقدور الآن الاطلاع على كامل النتاج الأدبي عربيا وعالميا منذ بداية التدوين التاريخي والأدبي إلى اليوم، بكبسة زر صغيرة، الأمر الذي كان من المفروض أن ينعكس إيجابا على النتاج الأدبي المعاصر ليجيء مُطعَّما بثقافة الأوّلين ومدعَّما بنتاجهم التاريخي الذي وصل إلينا، إلّا أن واقع الأمر يقول إنّ التكنولوجيا كانت وبالا علينا وعلى الأدب بالمعنى الدّقيق، حيث أصبح الكثيرون يستسهلون الوصول إلى المعلومة ونسخها دون تمحيص منهم وتدقيق، وتحليل ودراسة واستنتاج وغير ذلك من متطلبات الدرس الأدبي الواعي، إضافة إلى ما مُنيت به الساحة الثقافية من بروز الكثير من المتطفلين على الأدب الذين أتاحت لهم التكنولوجيا ادّعاء الأدب، وعرض نتاج لا يرقى إلى مستوى الأدب ولا يلبّي أدنى متطلباته.

إننا إزاء كارثة أدبية توشك أن تعصف بحاضرنا الأدبي، وتعكس مشهدا ثقافيا أدبيا متدنِّيا، سيكون مَثارا لخجلة الأجيال، حين يصبح إطارا عاما لهذا العصر يُعرض على الجيل القادم على أنه واقع عصرنا الحالي وأثرُنا في المشهد الثقافي التاريخي العام.