سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

في سيرة الحجر “من بليني فيزوف إلى بليني 21”

عبد الوهاب بيراني (كاتب وناقد سوري)-

معرض جدار برلين ودعوة للانفتاح والسلام
انتهت أعمال مهرجان جدار برلين اليوم (الأحد)، وكانت فعالياته بدأت قبل أيام في متحف جدار برلين كاحتفالية وتظاهرة فنية بمناسبة مرور ستين عاماً على بناء جدار برلين، وبدأ المهرجان بعرض فيلم فيديو عبر جهاز الإسقاط الضوئي على جدار برلين الأبيض مباشرةً، واستطاع الفيلم تعريف معنى ومغزى الحدود التي تفصل بين البشر داعياً البشرية للوقوف ضد التمييز العنصري وضد الاضطهاد على أساس الدين، أو العرق أو الجنس، وأهمية الفن في توحيد البشر عبر ثقافة الحب والتسامح والسلام.
فالفن بتعابيره ورؤاه الإنسانية يدعو إلى عالم بلا حدود وبلا أسوار وبلا خرائط، محاولاً إحياء وإعادة الأمل في التغلب على الصراعات والأزمات والأوبئة والحروب التي تشهدها الكرة الأرضية، فضلاً عن التغير المناخي والحرب الباردة التي تزعزع الاستقرار وتذهب بالعالم نحو الهلاك والدمار.
مما لا شك فيه إن الفن قادر على ذلك أسوةً بالمهرجانات الرياضية العالمية أو مؤتمرات الأرض العاملة على إنقاذ الأرض من التلوث البيئي وذلك من خلال شعور حقيقي صادق وواعٍ.
عدة أعمال فنية وضوئية وتشكيلية ونحتية لعدد من فناني العالم كانت في صدارة هذا المعرض وتأتي مشاركة الفنانة السورية العالمية سوزان العبود من خلال عملها النحتي (بليني القرن 21) وجدير بالذكر أن بليني هو الناجي الوحيد من كارثة ثوران بركان Vesuvius في عام 79 ميلادية في العهد الروماني والذي شهد الحدث المرعب وأخبر العالم عن قصة مدينته “فيزوف” المنكوبة، فالعمل تمثال طفل يجسد الأمل في مستقبل آمن وسالم للعالم وللبشرية. وهو تمثال لطفل يجلس على ركام أبنية هدمتها الحرب مرتدياً ماسكاً يغطي فمه وأنفه الذي غدا شعاراً للحماية من فايروس كوفيد19(الكورونا)، ويحتضن بيده قلباً ذهبياً، وبيده الأخرى جهاز موبايل حديث.. في رسالة أرادت أن تنقلها الفنانة عبر أهم حدث ثقافي بأوروبا ومن خلال منحوتتها “بليني 21”: “إن الحواجز بين البشر لن تدوم وأنها آيلة للسقوط ويمكن التغلب عليها، فكما سقط جدار برلين وعادت الحياة لألمانيا كدولةً موحدةً، فإن وباء كورونا سينتهي، وستعود الحياة إلى طبيعتها، وسيتغلب البشر على العزلة بالحب الذي يربط ويجمع كل القلوب وستتكاتف الجهود الإنسانية بالانعتاق من القهر والأمراض والحروب، وسيبقى القلب منبعاً للنور والحبر والسلام ولن يصدأ أبداً”.
والعمل تم إنجازه من مادة البولستر، وبطول متر ونصف المتر، استخدمت الفنانة طريقة السطح غير المتجانس للملمس، والذي استوحته من ملمس الجثث المتحجرة  لسكان مدينة بومبي الإيطالية، التي دمرتها حمم وأغبرة بركان فيزوف واكتشفت المدينة عام 1847 ليتفاجأ العالم بوجود مدينة كاملة وتماثيل متحجرة لبشر حقيقيين قضى عليهم الغبار البركاني وتحولت تلك الجثث إلى تماثيل وكأنها مشغولة بالإسمنت، وبدت كتماثيل حقيقية، لذلك تقصدت الفنانة سوزان العبود في عملها استخدام ذات الملمس الخشن والبنية النحتية  للجثث المتحجرة المشوشة السطح والعيون الممحية في إشارة إلى الكارثة الإنسانية رغم اختلاف وتباعد التاريخ والجغرافيا في عمليتي الزمان والمكان المختلفين.
فالطفل هنا وبرمزيته عبارة عن رسالة للمستقبل حيث سيروي كل الأحداث والأزمات وفي كل الأمكنة والأزمنة، (فالموبايل دليل قدرة التواصل عبر الحدود والمدى) وكيف أن الحب قادر على تجاوز الصعوبات (القلب الذهبي) وعموماً فإن الأطفال دوماً هم الأكثر قدرة على الحب والأكثر  تعبيراً عن معانيه السامية، وهم يمثلون الأمل، والبقاء رغم كل الكوارث الطبيعية التعرف على أوضاع اللاجئين وظروفهم القاسية والطرق المحفوفة بالمخاطر والموت التي يسلكونها للوصول لبر الأمان والحرية ولا يغفل العمل عن انتشار حالات الحجر الصحي والعزلة التي فرضها كورونا وتأتي الكمامة كرمز عن العزلة القادرة أخيراً على هزيمة الفايروس وفتح مسارات التكاتف وهدم جدران، العزلة كما هدمت الشعوب جدار برلين الذي شُيّد في زمن تميَّز بانهيارات عالمية بسبب الأطماع الاقتصادية وشهوة السيطرة ومحاولة إعادة حقبة الإمبراطوريات على حساب أمان وسلام الإنسانية للسيطرة على الثورات الطبيعية والبشرية وبقوة العنف المقيتة .
الأدب والفكر والفن والرياضة والموسيقا ستنجح أخيراً في فتح كوة الانفتاح وستنجح في تشكيل ملامح تحالف إنساني من أجل السلام.
*سوزان العبود: كاتبة ونحاتة سوريّة مغتربة تقيم بألمانيا صدر لها عدة كتب ولها مشاركات عالمية في معارض النحت والفنون التشكيلية.