سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

عِندما يصبح المكان مرشداً سياحيّاً والقراءة تذكرة سفر أولى

وكالات

يروي أستاذ الأدب العربي بجامعة البلقاء التطبيقية في الأردن نضال الشّمالي أنّ الروائي زياد قاسم كان موظفاً في دائرة الجمارك قبل أن يُهدي أحدهم روايته “أبناء القلعة” إلى الأمين العام السّابق للعاصمة الأردنية ممدوح العبادي. كانت الرّواية تحكي عن مدينته المحبوبة “عمّان”، ولم تلقَ انتشاراً حتى وصلت إلى العبادي الذي كان مهتمًّا بالبحث عن روايات تتحدّث عن المدينة.
حينها، أصرّ العبادي على مقابلة قاسم ووجّه له عبارته الشّهيرة “أنت أهم شخص في عمان”. كان ذلك في بداية تسعينيات القرن الماضي، وبعد ذلك اللقاء، منحه مكتبا في أمانة عمّان ليتفرغ قاسم للكتابة، وبقي به حتى انتهت مدة ترؤّس العبادي للأمانة، إذ سلّم قاسم مكتبه وواصل الكتابة في بيته حتى وفاته عام 2007م.
تحوّلت الرواية إلى مسلسل تلفزيوني عام 2017م، بمبادرة من العبّادي، وهي تؤرخ لفترة زمنية محددة للمدينة، وتمرُّ بالأماكن والمارّين بها، وتبيّن كيف تشكلت هوية المكان خلال تلك الفترة.
اللافتٌ هو اهتمام العبادي بالرواية وأمرٌ يُحسب له، لكنه مبرَّرٌ بتقاطع الاهتمامات لدى الروائي والأمين العام الذي انشغل بالبحث عن مغناطيس ثقافي يشدّ الزائر إلى مدينةٍ كعمّان، انصهرت بها هويّات وأعراق مُتعدِّدة. 
تحرص كثير من البلديات على إشراك الثّقافة في مشاريع الجذب السّياحي لمدنها، وفي أغلب الأحيان يقوم الكتّاب بهذا الدور بعفوية تامة. الأمثلة في هذا الشأن كثيرة، لعلّ أبرزها حواري وأزقة مصر التي عرفها القارئ من خلال روايات نجيب محفوظ، مما حدا بكثير من الأدباء إلى مقارنة آليات الكتابة لديه بتلك التي استخدمها نظيره الفرنسي إميل زولا في وصف باريس.
بطل أم حاضنة للأحداث؟
قد يكون المكان بطلاً من أبطال الرّواية، وقد يكون عنصرًا متمّماً لها. في رواية “أبناء القلعة” مثلاً، لم يكن المكان مجرّد حاضنة للأحداث، بل “حاز دور البطولة بين عناصرها، إذ أعاد زياد قاسم بناء عمّان بالفعل الرّوائي، متتبّعًا شخصيات المدينة المتنوعة (الشّركسي، الشّامي، البدوي، الفلسطيني، العراقي) بحسب الشّمالي.
وينقلنا ذلك إلى مكان آخر ورواية أخرى كان المكان فيها -رغم أهميّته- حاضنة للأحداث لا بطلاً، مثل “ثلاثية غرناطة” للكاتبة المصرية الراحلة رضوى عاشور، إذ تحكي الرواية قصة عائلة مسلمة وتأثرها بالأحداث التاريخية والمتغيرات التي عصفت بها، حين طُرد المسلمون من الأندلس.
يُحيلنا هذا التّحليل إلى رأي  أستاذ الأدب المقارن في معهد الدوحة للدِّراسات إسماعيل النّاشف الذي يرى أنه “لا يوجد ارتباط بين الرّواية والمدينة بالمعنى المباشر، أي لا يوجد تطابق بين الخارطة الرّوائية والخارطة الطّبيعية للمدينة، بل للمكان منحى أدبي جمالي له علاقة ببنية النّص الروائي”.
 وإذا كان الرّوائي قد استفز كثيراً من القراء لملاحقة أبطال أعماله وأماكن حدوث قصصهم، فالمؤثرون اليوم يقومون بهذا الدور من خلال منصات التواصل الاجتماعي، منهم من هو متأثر أصلاً بالأعمال الروائية.
“منى حوّا” صحفية ومن المؤثرين العرب، تقول إنّ الكتاب أو الرّواية تذكرة سفرها الأولى للسفر عبر المكان والزّمان، والقراءة تسبق أي رحلة تقوم بها. وتؤكد أنّ الرّحلة تبدأ بما تقرأه في الأدب عن الأمكنة، بَيْدَ أنّ فهم القراءة لا يكتمل إلا بالحضور الجسدي في المكان عينه. كما ترى أن المكان يؤثر في تكوين أي كاتب، ولا يمكن فصل النص عن المحيط الذي تأثر به الكاتب.
وتشير إلى ما ذكره إبراهيم وطفي مترجم أعمال الكاتب التشيكي فرانز كافكا إلى العربية، حيث تحدّث عن مدينة براغ وأزقتها وأضوائها الخافتة وردهات بيوتها، وكيف أثرت تلك الأجواء في صنع شخصية كافكا السوداوية.
زائرو براغ ممن قرؤوا أعمال كافكا، سيتفهّمون جيدا الحالة التي عاش بها الكاتب، خصوصاً إذا ما زاروا متحفه أو الحي اليهودي الذي نشأ به.
تتفق منى مع وطفي، وهي تتحدّث عن زيارتها لمدينة سان بطرسبورغ التي ساقتها إليها رواية “الليالي البيضاء” للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، وتقول: “لم أكن لأستطيع فهم قلق دوستويفسكي في القرن التاسع عشر، وما يخالجه من مشاعر تجاه الهوية والإنسان الروسي، واضطراب علاقته مع الدين والقيصرية والاغتراب، إلا حين زرت مدينة سان بطرسبورغ وتعرفت على تفاصيلها، واقتربتُ من الإنسان الروسي”.
 سياحة ثقافيّة
وتشرح منى مصورة الأماكن التي تزورها بعين القارئ: “لا مناص من معايشة الليالي البيضاء التي ترجمت علاقة دوستويفسكي مع الحب، ففي تلك الليالي تلتقي الشمس بالشمس ولا حضور لليل.. يلتقي الشروق بالغروب بدهشة سماوية للحظات قصيرة كحب حزين عابر لراوٍ حزين كالليالي البيضاء، كما وصفها دوستويفسكي”.
وتتبع الصحفية الأماكن التي قرأت عنها وتنشر صورها في صفحاتها على مواقع التواصل، مع نبذة تشرح علاقة الكاتب بهذا المكان. أسئلة المتابعين تركّز إن كانت صورة المدينة في الكتاب تشبهها في الواقع أم لا، وهو سؤال شائك لا يمكن الإجابة عليه إلا بحسّ وشعورٍ مكثّفيْن من القارئ الزائر. فالمكان يفقد شيئا من طبيعته أو طبيعة أهله حين يصبح وجهة سياحية بحتة، وعلى القارئ الزائر أن يبحث جيدا في التفاصيل.
ورغم أن كثيراً من الأماكن التي زارتها كانت قريبة من تصورها، فإن هذه ليست قاعدة أساسية، فقد رأت أن هناك قطيعة بين حي البيازين في غرناطة الإسبانية وما هو موجود في الثلاثية، ربما لأن رضوى عاشور “ركزت على الإسقاطات التّاريخية في الرّواية وليس المكان، إذ كتبت الرواية بعد غزو العراق وشعورها بالانكسار، وهي رواية تحمل الكثير من الشجن”.
إذًا، لم تعد المدن الموجودة في صفحات الروايات كافيةً لدى شريحة كبيرة من القراء لتكوين صورة عنها. اليوم، يلاحق القراء أبطالهم في مسقط رأسهم، بل يتبعون من يلحق بهم ليصبح المؤثرون عوامل جذب أخرى للمدن وذاكرتها.
جديرٌ بالذكر ما أقدمت عليه شركة سياحية في الكويت، بتنظيم رحلات سياحية تحت عنوان “سياحة ثقافية” تتبّع فيها آثار الكتب والروايات في زيارتها لبلدان العالم. ومن المفارقة، أنّ كثيرا من الكتاب الذين شدّونا كقراء لمدنهم وحملونا على السفر، لم يسافروا ولو مرّة واحدة في حياتهم، وبعضهم كتب عن أماكن لم يزرها، إثر استخدامهم أهم أداة من أدوات الكتابة: الخيال.