سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

عن أساليب الوساطة السياسية في حل الأزمة السوريّة

عبد الرحمن ربوع _

أزمات عميقة في بنية حكومة دمشق، أدت إلى عجزها عن منع اندلاع ثورة شعبية في ربيع 2011. ثورة كان لها إرهاصات ومقدمات منذ انتفاضة 2004، وقبلها حراك المثقفين في ربيع دمشق 2000، وما وقع في 2011 كان حتميًا لا فِكاك منه.
لكن ماذا يفعل السوريون ومن يهمّهم أمر سوريا لحل الأزمة التي نتجت عن تمترس النظام بموقعه وإصرار الشعب على المُضي قُدمًا نحو التغيير وإعادة بناء الدولة؛ ما أحال البلد لساحة حرب لا نهائية مفتوحة لتتدخل دولٌ وتدخل تنظيمات إرهابية، ويُقتل مئات الآلاف ويشرّد الملايين وتتحوّل الحواضر إلى أكوام من الأنقاض؟
مع تدويل الأزمة في سوريا وانتقالها من جامعة الدول العربية إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، لعبت الدبلوماسية الدولية وماتزال، من خلال الأمم المتحدة الدور الأبرز في تقديم العون للسوريين، ولكل المتدخّلين في الشأن السوري؛ لأجل تدوير زوايا الخلاف وتبريد الصراع وصولاً لحل سياسي، مبني على تفاهمات دوليّة وافق عليها كل من النظام والمعارضة، وحلفائهما وعامة السوريين، لكنها لا تزال حبراً على ورق رغم انطلاقها في جنيف قبل عشر سنوات.
ومن أبرز الأسباب التي أوصلت السوريين إلى حائط سدٍّ (بغض النظر عن العبث الدولي والإقليمي والتدخّل الروسي التركي الإيراني لفرض حلول تناسب هذا الثلاثي وتحقق مصالحه) كانت خارطة الطريق الخاطئة التي اعتمدتها الأمم المتحدة ومشى عليها مبعوثوها، وحاولوا إجبار السوريين على مسايرتهم فيها، دون مراعاة للخصوصية السوريّة التي لا تُجدي معها وسائل الوساطة السياسيّة الدولية المتعارف عليها في الأمم المتحدة، وتحتاج برنامجًا متكاملاً مبنياً على أساليب الوساطة المتعارف عليها في الثقافة السائدة في المجتمع السوري.
الحل السياسي يحتاج إرادة من طرفي أو أطراف الصراع، وهذا لم يكن ومازال غير متوفر في الحالة السوريّة، فحتى 2014 لم تكن المعارضة تقبل بمناقشة الحل السياسي والدبلوماسي إلا على مضض، واستجابةً لتدخلات سياسية ودبلوماسية من دول وازنة كالسعودية وفرنسا. وبعد 2015 صار النظام هو من يماطل ويعطّل، سواء على الأرض أو في أروقة المنظمات الدولية أو على طاولات المفاوضات، مستفيدًا من زخم الدعم الروسي والانشغال الدولي بمكافحة الإرهاب.
فالتفاوض بحسب ما تفهمه وتطبّق الأمم المتحدة (وخصوصًا التفاوض الذي ابتكرته هارفرد ويستعمله خريجوها المشتغلين في المنظمات الدولية) يهدف لقصقصة زوائد الصراع والولوج إلى لبّه، وبناء استراتيجية مراحلية لتفريغ الصراع من مضمونه وإلجاء الأطراف للإذعان لمنطق السكون والتناسي وطي صفحة الماضي بكل مُثقلاتها والمضي قُدماً نحو مستقبل يتسع للجميع ويحقق لهم حياة آمنة كريمة. كما يهدف لإرساء الأسس اللازمة لإصلاحات مستقبلية وليس بالضرورة لحل كل المشاكل على الفور. وهذا وإن كان مُجديًا مع بعض الشعوب وبعض الصراعات (مع أنني لا أعلم حالة من الحالات التي طبقت الأمم المتحدة هذه الاستراتيجية فيها لحل مشكلات دوليّة ونجحت فيها) إلا أنه لم ولن تكون مجديًا مع الحالة السوريّة، لأنه وإن كان السوريون مستعدون لخوض صراع أبدي لأجل استرجاع حق أو تحقيق قصاص؛ إلا أنهم وبكل بساطة مستعدون لحل أعقد معضلة اجتماعية بجبر خاطر أو بقُبلة شارب.
وحضور النظام أو المعارضة لجلسة تفاوض يحتاج إلى حوافز ومحفزات، كما يحتاج إلى وسطاء ورُعاة مناسبين، وهذا ما لم يتحقق أبدًا على مدى أكثر من عشر سنين منذ أُعلن عن حلول ومقترحات دوليّة وأمميّة سياسية لسوريا. أيضًا العبث سياسيًا الذي اضطلعت به كل من روسيا وتركيا وإيران في أستانة والذي فرّغ أي مقاربة سياسية من مضمونها، وأرسى لواقع شديد التأزّم على الأرض وفي النفوس بين النظام والمعارضة. وفيما فشل “مسار أستانة” في تبريد الأجواء بين الفرقاء المتصارعين، كما فشِل في إدماج مجلس سوريا الديمقراطية “مسد” في العملية السياسية السوريّة.
فمن عجائب أو طرائف التعاون الدبلوماسي والسياسي بين موسكو وأنقرة وطهران في “مسار أستانة” إغفال أهم وأبرز لاعب على الساحة السوريّة وهو “قسد”، ومن ورائها مجلسها السياسي مجلس سوريا الديمقراطية “مسد”. اللذين أصبحا منذ 2018 الطرف السياسي والعسكري الأبرز والأهم في سوريا، وهو الطرف الذي يبدو لكثيرين أنه الأكثر اضطلاعًا بالمسؤولية والأنضج سياسيًا والأقل ارتكابًا للأخطاء والأكثر انفتاحًا من بقية الفرقاء. رغم كونه الأكثر تعرّضًا للمحاربة والتهميش والتشويه والحصار.
واستمرار إغفال هذا اللاعب السياسي الأساسي كفيل بإحباط أي مساعٍ للحل أو إنهاء الصراع في سوريا، ولن تجدي أحلام اليقظة التي يحلم بها النظام أو المعارضة بتصفية “قسد”، لأن هذا غير ممكن عمليًا وواقعيًا مهما حاولت تركيا وإيران دعم ذلك، فما نجحت فيه روسيا وتركيا وإيران مع النظام والمعارضة في أستانة لن يلقى أي نجاح مع “قسد” لأسباب كثيرة أهمها الأسباب الذاتية، وهي تجذّرها في المنطقة التي تديرها، وطبيعة بنائها المركب من كل شعوب المنطقة اجتماعيًا وعرقيًا ودينيًا، وتقديمها نموذجًا وطنيًا مسؤولًا في ضمان وحدة البلد وترسيخ السلم وإدارة الموارد وضبط الأمن وتعزيز الشراكة وتمكين المرأة والتأكيد على التسامح…
إن الأطراف المتصارعة في سوريا أمام خيارات محدودة لإنهاء الصراع وإرساء حل مستدام. إما أن تصفّي أو تبتلع بعضها، وهذا غير ممكن منطقيًا أو واقعياً أو أن تنْجِز مصالحات مستدامة، وتبني تحالفات موثوقة، وتنسج علاقات تعاون وثيقة مع إرساء عقد اجتماعي يضمن حقوق الجميع، ويُقطع مع الماضي، ويشجع على عودة اللاجئين، ويتكفّل بإعادة بناء الدولة، وإعادة إعمار البلد.
علاوةً على ذلك يجب أن تقتنع الأطراف كلها بعدم جدوى استمرار الصراع في سوريا إلى ما لا نهاية. فبوتين لا يعيش للأبد وصديقه أردوغان وحزبه راحلان في الانتخابات المقبلة، وإيران ومحورها “المشاكس” موشِكان على الانهيار. ولن يبقى للسوريين إلا أخوّتهم وأرضهم، وهم كفيلون بحكمتهم وحنكتهم إنجاح عملية سلام شاملة. شريطة التخلي عن أوهام الدعم الخارجي الذي لم ولن يورثهم إلا الندم، وإعطاء أصحاب الرأي وأهل العقل فرصة تصدّر المشهد والإمساك بزمام الأمور ليصل المركب إلى بر السلام المستدام المنشود.