سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

صلاح ستيتية… زهرة الوجود المغلقة

طالب عبد العزيز_

مع أنَّه أخذ على أدونيس تأثره بإيف بوفوا في ديوانه (تحولات الليل والنهار) إلا أنَّ أدونيس نفسه عرِّفه بقوله، هو «الشاعر الذي يكتب الفرنسية بلغة عربية» نقرأ ذلك عن (شاعر المنهلين) الفرنسيَّ، ذي الأصول اللبنانية، صلاح ستيتية (1929-2020) في مجموعة النصوص، التي ترجمها مصباح الصمد، وصدرت عن دار النهار، قبل أكثر من عشرين سنة، حيث تحيلنا عناوين إصدارات ستيتية المخصصة للمقالات، والتي تختفي فيها رائحة الفرنسية في الاختيار العربي الدقيق لعناوين كتبه مثل (حملة النار، أور في الشعر، الليلة الحادية، فردوس، الرامي الأعمى، رحلة حلب، السبعة النيام، نور على نور) هذا الشاعر الذي لم يشأ هجران لغته، وثقافته العربيَّة الإسلامية، والتي فارقها في السادسة عشرة من عمره، لكنه أرادها خالدة في اشتغاله الإبداعي، فهي مبثوثة بشكل ساحر وعجيب في شعره، وفيما كتبه من نصوص في السرد، كيف، وهو القائل «نحن لا نسكن وطناً، بل نسكن لغةً». صلاح ستيتية المتعطش لليل وللسماء العارية، والذي يجد نفسه «ممزقاً بين العدد والليل» واحداً من شعراء منحوا الفرنسية أكثر مما منحها الكثير من شعرائها.
 وعلى خلاف القاعدة، إذْ، لم يحدث أنْ تمكنت اللغةُ العربية من شاعرٍ، أو كاتبٍ أوروبيٍّ، من الذين زاروا شرقنا العربي، أو أقاموا فيه، وتعاملوا أو تماهوا مع لغته وثقافته، مثلما حدث مع ستيتية، الذي لم يتردد أندريه دي مونديارغ، وهو شاعر معاصر لستيتية، في تفضيله على بول فاليري بقوله: “إن كان ما في شعر بول فاليري من ذلك التفضيل ويعني (الفلسفة الإفلاطونية، الشهوانية الوجودية) فإنه لم يكن أقوى إبداعا منه”.
 ظلَّ الشرقُ محطة استكشافٍ، وزخرفاً لغوياً، ومنمنماتِ تزييّن، وأساطير حُلمية عند أدباء أوربا، بمن فيهم الفرنسي جيرار دي نرفال (1808-1855) الذي زار القاهرة وإسطنبول (القسطنطينية)، وتوقف بلبنان وفلسطين في كتابه (رحلة إلى الشرق) ونجد محدودية الرؤى والتناول هذه في كتب أخر، ولا نستثني من ذلك الألماني جيته (1749 – 1832) في (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي) الذي لم يذهب أبعد من تعلقه بشعراء الفارسية (حافظ، وسعدي، وعمر الخيام) وهكذا، ظلت روحُ الشرق الحقيقي، القائمة على البنى المفارِقة اجتماعياً وثقافيا بعيدة عنهم جميعاً، الأمر الذي اجتمعت أطرافه الشرقية والغربية في ثقافة ولغة وشعر ستيتية، هذا الذي لم يعول في شعره على التجربة، يقصد العواطف الروحية والشهوانية والمناظر الخلابة، ووقع المصائب الكبرى، وكل ما يعصف بالإنسان، لأنَّ القصيدة لديه لا تتكون من أفكار وعواطف.. بل من كلمات، كما يعتقد ملارميه، فهو القائل: “الوردةُ حديقةٌ تتوارى فيها الأشجار”.
 الغريب أنَّ قارئ شعر ستيتية لن يلحظ تأثره بأيِّ شاعر فرنسيٍّ، على معرفته الكبيرة بالفرنسية، لغةً وشعراً وثقافةً، ولم يجد أندريه ميكال فيه شاعرا كبيرا فحسب، إنما كان يغار منه، ويحسده فيقول: “كان قليلا أن أُظهرك شاعرا وعالِما في لغتك، هذه اللغة التي تجعل منكم كلكم، او جلّكم أيّها العرب سدنةً لكلام جوهري” … ثم يتحدثُ عن قيمته اللغوية فيقول: “تأتوا إلينا لتقطفوا من ثمارنا، أكثرَها انتسابا إلى العالم» إذن، لم يكتف ستيتيه ببزِّ الشعراء الفرنسيين في لغته وثقافته العربيتين، إنما بزَّهم بلغتهم وثقافتهم، لهذا جاءت جملة أدونيس (شاعر المنهلين) تامَّةً ودقيقةً، في وصف شاعر استثنائيٍّ، على تضيق ضفتي المتوسط.. في (ليل المعنى) كتاب الحوارات مع ستيتية، الذي أصدره جواد صيداوي، عن دار الفارابي نجده يستحضر وبشكل لافت كبار شعراء العربية، مثل: اِمرئ القيس، والمتنبي، والمعرّي، والبحتري، مع من يستحضرهم من الشعراء الفرنسيين، وخاصة شاعره المفضل (بيار جان جوف) الذي قرأه عقب وصوله باريس مباشرة، بل ويذهب إلى تفضيل الكثير من الشعراء العرب القدامى عليهم، ذلك لأنه متيقن بأنَّ العربية تنطوي على ما لا طاقة للفرنسية به، وكان يرى فيها (العربية) رباطاً سرّياً لعالم آخر، تبلغ به الحدودَ القصوى، لما لا يعبّر عنه. واضح أنه أراد من إقامته على الأرض أن تكون شعرية، بتعبير هلدرلين.
نتحدث عن صلاح ستيتية بوصفه شاعراً كبيراً، هذا الذي وقف حزيناً أمام اعتداء حرارة الشمس اللاهبة على طهارة الندى، المتأمل الوحيد في زهرة الوجود المغلقة.