سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

شيءٌ من الحبّ والذكرى وشيءٌ من الوداع للشاعر كريم العراقي

عبد الله رحيل_

هو الذي كانت كلماته مخبأة، فتصدح بين شفتيه، وكانت ابتسامته العريضة تحادث الأيام في صمت وسكون، لكنه صمت زوبعة مثيرة تحطم جدران الكلمات، وتغور في مداخل اللحن؛ فتنتج نماءها على ألسنة المُحَدِّثين والمُطربين، قادم من عشق الأهوار، ومن سيرورة الرافدين، ومن سواد العراق المبهم، حاملا كلمته بين روحه وقلبه، سمع له العراق، والعالم بوقع ألحان مُغناة، يستقيم بها القلب، ويتعشَّق وجهها قوام شجيرات النخيل، هو كريم نُسِب العراقُ له، فأكثر من السؤال، والإلحاح عن الذي يهواها، وكُثُر الحديث بها، أهي سمراءُ، أم شقراءُ، أم قصيدةٌ عصماءُ؟ لكن شفتيه أبتا أن تلفظها إلا بكلمة بغداد، وإلا بلحن خلدها، هي حبيبته بغداد.
كريم العراقي شوق الغروب للشجر، ونثارة غيم المطر، عناه حب البسمة بروح الزهر، واستقرت في عينيه كلمات القصيدة، مخلدة في متون الدهر، عاصر الرافدين، وعشق حمائم دجلة، وفرح تاريخ سنة 1955م بولادته، في بغداد، ثم رصد الشعر بمخيلته، فكان شاعر الأغنية والقصيدة الشعرية، والأوبريت والمسرحية، وكان وجها إعلاميا جليلا، وقدمت له اللغة الشعرية أغاني سمعتها الأجيال، وعمَّت أرجاء المعمورة، في ألحان للطرب العراقي الأصيل، بصوت صلاح عبد الغفور، “تهانينا يا أيام” وأغنية “جنة جنة” للمطرب رضا الخياط، و”عمي يبو مركب” لفؤاد سالم، و”يا أمي” لسعدون جابر، وللجمهور من المحبين الرياضيين “هلا بيك هلا” أغنية رياضية، لكنه في حصار التسعينات قدّم للعراق عامة، ولشعب العراق، قصيدة” الشمس شمسي والعراق عراقي”.
ويمكن أن نجمل الشهرة الواسعة، التي وضعته في قمة هرم التأليف الغنائي، وسيرته في سفينة النجاح، هي مرافقته للمطرب كاظم الساهر، الذي قدمه بالموال العراقي الشجي، وبالكلمة الشاعرية اللطيفة، وبأسلوب لحن حديث معاصر، حوى أسس الحضارة، والحس الشاعري.
وإن تركنا اللحن في بيادر الأغنية، وسرنا طويلا نحو مجد القافية، والوزن، والخيال، فإن البال يجنح نحو القصيدة وروحانية الصور، ولطف التشبيه، والمحسنات البيانية، فكانت هذه الأبيات في اللوم والعتاب:
“وعذرته لما تساقط دمعهُ
 ونسيت أياماً بها أبكاني
وأخذته في الحضن أهمس راجياً
 جمرات دمعك أيقظت نيراني
 أتريد قتلي مرتين ألا كفى
فامنع دموعك واحترم أحزاني
 لا صبر لي وأنا أراك محطماً
 أيا من يجرح دمعه أجفاني”
وجميل من المرء الشاعري، أن يهب نفسه للآخرين في مستودع اللفظ، والشعور حينما يُجبر على ترك مَن أهواه، وتركت نفسه في مرافقته، فالشاعر كريم اللطيف في المعاشرة الروحية، يتلطف في اختيار البعد عمن أحب:
“كَمْ خَابَ ظَنِّي بِمَن أَهدَيتُهُ ثِقتَي
فَأَجْبَرَتْنِي عَلَى هجْرَانِهِ التُّهَمُ
كَمْ صرتُ جِسْرًا لمَن أَحبَبتُهُ فَمَشَى
عَلى ضُلُوعي وَكُم زَلَّت بهِ قَدَمُ
فَدَاسَ قَلْبي وَكَان القَلبُ مَنزِلَهُ
فَمَا وَفَائِي لِخِلٍّ مَالَهُ قَيَمُ
والقصيدة الغزلية عند الشاعر كريم العراقي محبة تاريخ المرأة اللطيف، المليء بالحبّ، والمفعم بالروحانية الغزلية:
جاءت إليَّ من السماء مُلَيكةً 
هي باختصار هي الأُنوثة أجمع
والمرأة عنده كينونة الجمال، وحسن رؤية العين، تسير في تناغم الحياة، وقوام سحر الشجر، فعارضة بالأزياء الملونة تظهر، وكأنها اختلاف الفصول، تتبدل أثوابها، كأنها تبديل الفصول، وتقف في موجة الجمال، وتسير بين الناظرين:
 تَغار من قوامها الخيل
عَارضة الأزياء
 يا ليته لا يَنتهي الليل
 ليلتنا ليلاء
 مِشيتها رقصٌ وموسيقا
والحُسن لا يَحتاج تعليقا
 آدمُ في حَضرتك طفلٌ
لليوم يا حواء
ويمر على شكوى الزمان، فتبري قلبه المتعب أنانية الخلق والأنام، فلا تستقيم شكواه إلى الخلائق، بل يتعداها نحو أسس الوجود:
 بَيْتٌ مِنَ الشِّعْرِ أَذْهَلَنِي بِرَوْعَتِهِ
توسّدَ القَلبَ مُذ أَنْ خَطَّهُ القَلَمُ
أَضحَى شِعَارِي وَحَفَّزَنِي لأُكرِمَهُ
عِشرِينَ بَيتاً لَهَا مِنْ مِثلِهِ حِكَمُ
لَا تَشْكُ لِلنَّاسِ جُرْحًا أَنْتَ صَاحِبُهُ
لا يُؤْلِمُ الجُرْحُ إلَّا مَنْ بِهِ ألَم
والأب عنده أسلوب تربية يشعر بفقده، ويتلَّمس وجوده، فهو بين عينيه خيال لا يغيب، فهو شمس الكون، التي لا تغيب عن الكواكب، لكنه رغم شدة الأب والقسوة في التربية وترسيخها، هو عند الشاعر كريم حنون لطيف، محبُّ، له ثورة تملُّك العشق، لكنه رحل، وفي قلب الشاعر محبة الأب على مدى الدهر، وله في ذكراه حنين الحياة:
آهٍ كَمْ أَشتاقُ أَيامَ أَبيْ
ذلك الرجل الرهيبُ
العصبيُّ العصبيْ
إِنه أُورثنيْ الحزنَ
ولكن..
مَدّني بالعزمِ والعزةِ
والصبرِ الأَبيْ
فحملتُ العبءَ طفلاً
ودموعي لُعبَيْ
وبكى حينَ رآني ناجحاً
ورضى عِينيهِ أطفا تعبيْ
إنما كانَ أبيْ..
قاسيَ الوجهِ
ويُخفي نهرَ حُبٍ عذبِ
قلبهُ قلبُ صبيْ
صبرُهُ صبرُ نبيْ.
رحم الله أَبيْ
وحين تغدو الآلام بلوى، والأمراض تصبح رفيقة الفراش، تضيق الدنيا على المرء بما رَحبت، ويصبح الزمان بطيئا وتتزاحم المصائب في طريق الموت الأبدي، يُصاب الشاعر كريم العراقي بمرض لا شفاء منه، ضمته أبو ظبي، وحنت عليه حنان الأب، لكن أبت المنية إلا أن تنشب أظفارها في قلب كريم، ولا تقلع، وأُلْقِيت كل تميمة لا تنفع، فغادر الدنيا الشاعر كريم، لاحقا ركب من راحوا إلى الدار الأبدية، وهناك قبل الرحيل، ربما سمع من النافذة كلماتِ قصيدة له، حملتها الريح والأوجاع إلى سرير مرضه، فتغنَّى بها متلعثِّمًا، وبعدها مدّت له المنون أكفَّ الوداع:
ضاقت على كأنها تابوت
لكأنما يأبى الرجاء يموت
والصبر يعرف من أنا
منذ الصبا
وشمٌ له في أضلعي
منحوت
فنشأت تحت الضيم
غير مرفٍّه
ما راعني الحرمان
والطاغوت
وأنا الذي دفن اللئام
منابعي
وطوى يدي بسحره
هاروت
أرأيت حيا ميتا متماسكا
متفائلا وله الآمال قوت
هذا أنا
سرقت شبابي غربتي
وتنكَّرتني أعينٌ وبيوت”
وأطمع في سيرتك الغناء، لتسور حياتي بمقطع دُعاء، وأنثر على متون قبرك أحزان اللقاء، وترانيم غيم السماء، لكنني أودعك دون دمعات البكاء.