سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

شجرة الزيتون العفرينية تواسي أبناءها

روناهي/ قامشلو ـ

مثلما يدمي احتلال عفرين قلب الحاضر، فإنّه يوقظ الذاكرة أيضا ويتسلّح بها، هذه ليست نوستالجيا، هذه مطالبة مشروعة بإنهاء احتلال المدينة، وعودة الأمن إليها؛ كي يألف أهلها رؤية زيت الزيتون النقي، بدل رؤية الدماء، وتعود الأغنيات تُغنى بين أشجار الزيتون في عفرين المدينة الجميلة.
كانت عفرين أيام الزمن الجميل في كل موسم قطاف زيتون، تجذب مئاتٍ العمال خارجها، قد تصل للآلاف في المواسم الوفيرة، وذلك بهدف العمل في جني المحصول، لأنّ عدد أشجار الزيتون الهائل فيها، لا يتناسب مع عدد أهالي عفرين، وبالتالي يتحتم طلب مساعدة الريف المجاور والبعيد، وكان أهالي الريف الحلبي الجنوبي الحصة الأكبر من هذه العمالة، كما أن هناك أسباباً أخرى لترك أهالي عفرين العمل في جني الزيتون، منها التعليم الذي أبعد الفئة الأكبر منهم عن الأعمال الزراعية.
تذهب العائلات بكامل أفرادها، كبارا وصغارا، نساءً ورجالاً، تترك بيوتها مغلقةً وراءها، وتذهب للتخييم في كروم الزيتون في عفرين، وعادة ما تتفق كل عائلة مع مالك محدد، تتفق معه وتتردّد سنويا على حقول زيتونة لقطافها في المواسم القادمة.
أما الآن كان على النساء في ريف عفرين، بملابسهنّ الخريفية الرقيقة، ممن تبقى متمسكاً بأرضه في وجه المرتزقة، في منطقة الشهباء، الحذر عند الولوج إلى البساتين لجني موسم الزيتون، واجتياز حواجز التفتيش المنتشرة، على مفارق الطرق المؤدية إلى أراضيهم.
ولأنّ منطقة الشهباء وكذلك عفرين، تعد من أولى المناطق التي نادت بالحرية، والعدالة والمساواة، فقد سعتْ المرتزقة تحت مسمياتها المختلفة، ومن خلفهم دولة الاحتلال التركي، إلى تدمير الحياة في تلك البقعة من الأرض، عبر احتلالها وتهجير سكانها، وتدمير أراضيها واقتلاع زيتونتها، والتضييق على من تبقى من سكانها، ممن رفض ترك قطعة من روحه خلفه.

طريقٌ يملؤه الرّعب
أثناء التوجه إلى البساتين تنتشر حواجز المرتزقة، الذين لا يعرفون بأيّ أرض هم، ولا حتّى اسم المكان الذين يقيمون به، سوى بعض الأماكن أُمليت أسماؤها عليهم من مشغلهم، هنا الوجوه قاتمة مرعبة؛ لأنّ الأمر يتعلق بأصحاب البساتين الأصليين، (إلى أين ذاهبون) (من أنتم)، وهنا المُضحك المُبكي، غريبٌ يسأل، وصاحب الأرض يجيب، ما أقساها من صورة، تقول “نبيهة محمد” القاطنة في قرية دومليا التابعة لناحية راجو، البالغة من العمر 52 عاما، “منذ سيطرة المرتزقة على مناطقنا، أصبحنا غرباء عن ديارنا، لا نستطيع الوصول إلى بساتيننا، إلا بعد أخذ الموافقات من تلك المرتزقة، أصبحنا كمن يدق باب بيته لدخوله”، أما الأماكن القريبة من مراكز تجمعهم فهذه أصبحت من الحلم الوصول إليها، وعندما تسأل أحد هؤلاء عن مكان معين، هنا يجيبك باستهتار وتهكّم وكأنّه هو صاحب المكان.

استعدادات موسم القطاف
تقول “نبيهة” منذ منتصف الشهر العاشر يبدأ موسم قطاف الزيتون، وهنا الجميع يبدأ بالاستعداد لهذا الشهر الذي يشبه المرأة؛ لأنّه شهر العطاء والخير والقوة، والإرادة، نبدأ بصناعة السّلالم، نجهز الغرابيل، والصواني، وأكياس الخيش، والعصي الطويلة، والسّلال، والمشط.
ونبدأ نخطط للقطاف، ونرسم مشاريع بعد انتهائه، من سيتزوج؟ من سيسافر؟ من سيبني بيتاً؟ من يشتري سيارة؟ أو قطعة أرض إن أمكن ذلك، ويجتمع الجميع لمناقشة هذه الأمور، تقول: “يمرّ أحد عشر شهراً من السنّة، لكن شهر قطاف الزيتون مميز؛ لأنه فيه روح”.
عرسٌ سنوي يستبشر به الجميع
على إيقاع سقوط حبات الزيتون الخضراء على البساط المفروش على الأرض، تتعالى أصوات النساء بأهازيج الفرح، نساء يعتلين السلالم لجني الزيتون حبةً حبه بعناية فائقة، فهنَّ يعلمنَ جيداً أنّه عندما تُقطف الزيتونة باليد يكون زيته أكثر جودةً، هكذا تقول “نبيهة”.
وتكمل شارحة ما يقومون به: “عند وصولنا نضع حاجاتنا، من أكل وشرب وأوعية طبخ في مكان قريب، وننطلق في العمل بكل نشاط وحيوية، بعد ساعتين من العمل المتواصل نأخذ راحة، نفترش الأرض، وتخرج كل واحدة منّا ما جلبته من وجبات مخصصه لهذا الشهر من خبز، وزيت الزيتون، والعسل والشاي والقهوة، والشيش برك والمحاشي، التي تطبخ عل الحطب، وبعض الحلويات التي تمدنا بالطاقة نتيجة برودة الجو في مثل هذا الوقت من السنة، هنا تتعالى الضحكات ونتبادل أطراف الحديث، ثم نأخذ قسطاً من الراحة، ثم نرجع إلى شجرات الزيتون لجني حباتها، وغربلتها وإزالة الأوراق منها، حتى لا يكتسي طعم الزيت حموضة زائدة، ونحن نغني أهازيج تقليدية تبعث الفرح والبهجة”.

الشجرة المقدسة
شجرة الزيتون في عفرين، هي الحياة هي الروح هي الذات، هي الهوية، هي رمز الصمود والبقاء والخلود، تقول نبيهة محمد: “نعمل طوال اليوم بدون أن نشعر بالملل أو التعب، لما تعنيه لنا هذه الشجرة فهي كالسّيروم، الذي يبقينا على قيد الحياة، فهي تساعدنا على تلبية حاجاتنا باقتراب فصل الشتاء، ففي موسم الزيتون لا يبقى فقراء، لأنّنا نقوم بالتوزيع على العائلات الفقيرة، وكان من ينتهي أولاً يذهب لمساعدة الذين لديهم أشجار كثيرة، وكنّا نطلب من العائلات الفقيرة ألا تصنع الطعام قبل يوم أو يومين، لكي نتناول الطعام مع بعض، وبعد الانتهاء نركب “الجرّار” ونعود إلى بيوتنا وهكذا حتى انتهاء الموسم، فبعد بيع المحصول نقوم بذبح أضّحية ونوزعها على الفقراء تيمناً بانتهاء الموسم بدون مشاكل، وبخير وهو مثل الدعاء أو التعويذة في نهاية كل موسم، بقلوب فرحة وعيون دامعة أنهينا قطاف الزيتون، والله يبعد عنّا البلاء. ثمّ نرجع إلى بيوتنا، ويبدأ العمل في التنظيف وترتيب البيوت، استعداداً للشتاء بعد انتهاء موسم القطاف”.
موقف دولي مترنّح بين التنديد فقط
مقاطعة عفرين التي احتلتها تركيا عام 2018، وأدى ذلك إلى استشهاد المئات معظمهم من النساء والأطفال، في ظل صمت دولي اقتصر على التنديد فقط، دون العمل على إخراج المحتل، أو وضع حد للانتهاكات التي تحصل هناك من قبل المجموعات التكفيرية، أو مرتزقة الاحتلال التركي بحق من تبقى من أهل عفرين ومقاطعة الشهباء بشكل عام، وتضم عفرين نحو 350 قرية وبلدة صغيرة وكبيرة من أهمها عفرين المدينة، وجندريسة وبلبلة وشية، وراجو وشرا،  وقد أسفر الاحتلال لتهجير نحو 300 ألف كردي من عفرين، وتم الاستيلاء من قبل مرتزقة تابعة لتركيا على مزارع الزيتون، التي يمتلكها المزارعون الكرد، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.

التحرير قادم
كل زيتونة ستنجب طفلاً، ولابدّ للظلام أن ينجلي، ولا يموت حق وراءه مطالب.
تقول نبيهة: أمانينا أن تعود الأيام الجميلة، ونعود إلى بيوتنا وديارنا وزيتوننا، أن ترتاح قلوبنا وقلوب الجميع، وتعود الأيام السابقة في عفرين، لأننا تخطينا المرحلة الصعبة، ونعيش الروح العفرينية.
وتتابع نبيهة محمد: “عندما خرجنا من عفرين خرج الخير والبركة من أيدينا، وسنعود إلى الديار، التي يمكن أن تكون فقدت أصحابها، نتمنى من الله أن يعود كل صاحب أرض إلى دياره؛ لنعيش روح الطبيعة العفرينية”.
وتجدر الإشارة إلى أنّ قرية دومليو تتبع ناحية راجو، يبلغ عدد سكانها 2148نسمة، وينسب تسمية هذه القرية إلى اسم عشيرة كردية (دونبللي) تبعد عن عفرين 15 كم، وعن مدينة حلب 75 أكم، وعن قرية بعندلي اثنان كيلو متر.
 أما الصعوبات التي يعاني منها أهالي مقاطعة عفرين لم تتوقف عند الصعوبات الأمنية فقط، بل تتجاوزها إلى صعوبات اقتصادية، بعد ما منعت المرتزقة من إخراج محصولهم إلى خارج مناطقهم، سبب انخفاض سعره إلى حدوده الدنيا، علماً أنّه يباع في المناطق الأخرى بأسعار أغلى بكثير؛ ما يؤثر على حياتهم المعيشية.