سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

شتت الهجوم التركي شَملَ الأسرة.. لينتهي المطاف بالمسنين في غرفة متهالكة

“قتلنا الحر والجوع.. وضعنا تعبان حيل”، بهذه العبارة تتحدث عن معاناتها بعد أن هُجِّرت من قريتها بسبب القصف التركي، لينتهي بها المطاف برفقة زوجها المسنّ، فاقد الذاكرة منذ عدّة أعوام، في غرفة متهالكة كانت مطبخاً لمنتزه شعبي وسط بلدة تل تمر شمال مدينة الحسكة.
كانت وضحة الأحمد تعيش برفقة زوجها حياة هانئة في بيتهما الطيني في قرية السودة جنوبي المدينة، وكان جميع أبنائها حولها يعتنون بها قبل أن تشنَّ دولة الاحتلال التركي برفقة المرتزقة مما تسمى بـ “الجيش الوطني السوري” التي تدعمها هجوماً على مدينة سري كانيه/ رأس العين، شمال شرقي سوريا، أواخر العام الماضي.
حالهما كحال مئات الآلاف من المهجرين في منطقة الحسكة شمال شرقي سوريا، تقيم المسنّة البالغة من العمر /78/ عاماً برفقة زوجها شوّاخ محمد والبالغ من العمر /93/ عاماً، في وضع معيشي مترد بعد أن شتت الهجوم التركي على المنطقة شَملَ الأسرة التي كانت تضم /11/ فرداً، دون وجود دخل يعتاش منه المسنّان.
“كانت الحياة جميلة في قريتنا”
وتقول المسنة وهي تستعيد ذكريات حياتها قبل الهجوم التركي على المنطقة: “كانت الحياة جميلة في قريتنا، لم نكن بحاجة إلى شيء”.
وكان الهجوم التركي على منطقة سري كانيه/ رأس العين شمال شرقي سوريا، أواخر العام الفائت، قد تسببت بتهجير أكثر من /300/ ألف شخص، وفقاً لأرقام وتقديرات الأمم المتحدة.
ما إن وصلت مدافع المحتل إلى مشارف القرية حتى خرج المسنّان برفقة القرويين الآخرين نحو المجهول قاصدين البراري هرباً من وابل القذائف التي كانت تنهال على القرية ومحيطها، رغم أن قريتهم لم تشهد دخول مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية بتاتاً، وفق ما ترويه وضحة لـ “نورث برس”.
وبعد ليلتين قضياها بين الأراضي الزراعية، توجها نحو بلدة تل تمر، وهناك استقبل مجلس بلدة تل تمر كافة المهجرين وإيوائهم في المدارس لحين تأمين ملاذ آخر لهم، بينما تمّ إيواء المسنين وضحة وشوّاخ في الغرفة الملاصقة لمدرسة وليد الريفية وسط البلدة التي يقطنها حالياً نازحون من قرية السودة.
تضيف وضحة بحنق شديد وعيون دامعة متحدثةً عن تلك الأيام: “كانت أيام سوداء، وكان الموت يلاحقنا”.
“لم يتركوا شيئاً إلا وسرقوه”
وتتذكر بحسرة ما حلَّ بمنزلها الآن بعد أن دخلها المرتزقة التابعة لتركيا، وتقول: “سرقوا جميع محتويات منزلي، لم يتركوا شيئاً إلا وسرقوه، البراد والأفرشة وحتى العواميد التي كانت تسند سقف المنزل سرقوها”.
بعد نزوح العائلة من القرية التي لم يعد بمقدورها العودة إليها في ظلّ وجود المرتزقة فيها، تشتّت شمل أفراد العائلة، سالكين طرقاً متفرقة في المنطقة، حيث توجّه البعض إلى مدينة الحسكة وآخرون إلى قرى في الأرياف، ولم يبقَ منهم سوى أحد أولادها الذي يقطن رفقة زوجته وأولاده ضمن أحد صفوف المدرسة المجاورة لغرفة والديه ولكن دون أن يتمكن من مساعدتهما.
وتفتقر غرفة المسنين إلى أدنى مقومات المعيشة، حيث يغطي سقف الغرفة التي لا تتجاوز مساحتها /15/ متراً مربعاً، قماش ممزّق تسندها عواميد خشبية، بينما نرى تمّ سدّ ثقوب الجدران بالطين من الداخل.
وتقف المسنّة بزيها العربي المتعارف عليه في منطقتها وتغطي رأسها بوشاح أسود وسط غرفتها، وأردفت: “تتعرّض الغرفة طوال النهار لأشعة الشمس، نهرب إلى الخارج ونجلس في ظلال المدرسة حتى ساعات الغروب”.
وتتوسط غرفة المسنين حصيرة مهترئة تتوزع حولها أواني بسيطة للطبخ وأفرشة للنوم، في حين تفتقر الغرفة إلى مكيفات تبريد وبرّاد في ظلّ درجات الحرارة العالية، بينما نرى بجانب الغرفة عبوات مياه تقول وضحة بأنها التقطتها وهي فارغة من الشارع لاستخدامها.
تقول الأم القروية بلهجتها المعروفة في الجزيرة السورية: “وضعنا تعبان حيل يا ابني.. شوفة عينك، آني والحجي ساكنين هين لا مأوى ولا مكان غير هالغرفة، وما عندنا شي لا مكيف ولا مي باردة ولا شيء، شنسوي؟”.
“نقتات من صدقات الجيران”
ما يؤلم المسنة السبعينية أكثر من مرارة التهجير هو تخلّي أقاربها عنها منذ فترة نزوحهم قبل عشرة أشهر دون التردد عليها والاطمئنان على أوضاعها هي وزوجها في محنتهم الصعبة هذه، فحتى ابنها الوحيد الذي يجاورها لا يتردد عليهما كثيراً ولا يقوى على تقديم المساعدة لهما بسبب البطالة وضيق الحال، بحسب قولها.
وتتأسف وضحة الأحمد التي تغطي وجهها ويديها وشوم كانت تستخدم للزينة سابقاً وفق الأعراف، وتقول: “لا أحد يقول هذه أمي أو هذا أبي لأساعدهما، فها نحن هنا نقتات من صدقات الجيران”.
بدورها، تقول عائشة، وهي ابنة شقيق الزوج شوّاخ محمد، والتي تعيش في المدرسة المجاورة برفقة زوجها، بلهجتها العامية عن سوء أوضاعهم لوكالة نورث برس: “وضعنا تعبان حيل، متنا من الحر، لبين ما تغيب الشمس تطلع أرواحنا من أجسادنا”.
وعن كيفية تأمين عمها وزوجته للقمة العيش، تضيف عائشة: “عمي فاقد للذاكرة منذ أعوام، حيث يقصد الخيّرين للتصدّق عليه لتأمين احتياجاته”.
بقاء المسنين وحيدين دون مساعدة وسط ظروف إنسانية صعبة، يدفعهما للبقاء شهوراً دون استحمام أو تبديل ملابسهما.
المنظمات الإنسانية لا تقدّم لهم الدعم
وتشير عائشة إلى أن المنظمات الإنسانية لا تقدّم لهم الدعم وتتغافل عن أوضاعهم المعيشية، وقالت: “سابقاً كانت تأتينا المساعدات لكن الآن لا أحد ينظر إلى وضعنا، فأولادنا يقومون ببيع الخبز اليابس ليتمكنوا من الذهاب إلى البقالية لشراء ما يحلو لهم”.
تختتم السبعينية الحديث عن معاناتها وهي تمسح دموعها: “ليت الحياة كانت بلا شيخوخة، فالموت أرحم من الحياة التي تقطّع أحشاءنا من الجوع في هذه الغرفة التي تسلخ جلدنا من الحرّ”.