سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

رحـلة الحجيـج إلى مكـة المكـرمة

قامشلو/ محمد العبد الله ـ


يتوافدون رجالاً، وعلى كل ضامر، يقدمون من كل فج عميق، من أصقاع المعمورة كلها، شعثاً غُبَّرا، قد بدت عليهم ملامح السفر الطويل، يغذّون السير والخطا، نحو مكة والحطيم، ونحو البيت الحرام، وهو المبنيُّ بالأمر الإلهي المقدس، الذي وضع للناس، ينجدون ويغوّرون، حتى تستقبلهم الرحاب الطاهرة، ويطوفوا بالبيت العتيق. 

منذ فجر التاريخ، وخلق البشر على هذه الأرض، وُجِدت مكةُ، وكانت واديا غير ذي زرع، كما وصفها الله تعالى في القرآن الكريم، وأُسندت القداسة الإلهية إليها، وقد بُني فيها أول بيت وضع للناس، للطائفين والرُّكَّع السُّجود، وبعد لأي كبير من الزمن، والتقلبات البيئية في حرِّ الهجيرة وسفِّ الرياح، قُوِّضت أركان هذا البيت، واندثرت قواعده، فأمر الله تعالى النبي إبراهيم عليه السلام، وزوجته هاجر، وابنه إسماعيل الرَّضيع، أن يشدّوا الرحال من فلسطين، ثم يمضون عائدين إلى مكّة، حيث البيت العتيق، وما إن وصلوا أودية وشعاب مكة، ترك النبي إبراهيم، عليه السلام، هاجر وابنها إسماعيل الرضيع بين الجبال، والشعاب، يقاسون حرَّ الظهيرة، وذرِّ الرِّمال، وما إن وضعت رحالها هاجر، عليها السلام، بدأت البحث عما يقي جوع هذا الرضيع، ويقوي صلبه، فقد جفت شفتاه، وأخذ العطش منه كل مأخذ، تركته بين الحصى والحجارة؛ فأخذت تصعد جبل الصفا، وتهبط منه راكضة باتجاه جبل المروة، تبحث جاهدة عن الماء والبشر بين الشعاب والحجر، حيث لا أحد يسكن تلك الجبال والشعاب الموحشة، وهي على الحالة تلك من الحيرة، والبحث والخوف على حياة رضيعها، وإذ بالنسور والطيور الجارحة العطشى، تعلو وترفرف فوق مكان الرضيع إسماعيل، جاءت مسرعة نحوه، والخوف والدهشة، والحيرى، بعينيها، ربما حدث للرضيع إسماعيل طارئ مخيف، وما إن وصلت رأت العجب العجاب، ماء يتفجّر وينبع من بين أرجل الرضيع، ولشدة ولهها، وخوفها وحرصها على المحافظة على الماء حتى تسقي به رضيعها، جعلت تحوّط الماء بيديها وتقول له: زِمْ، زِمْ، يعني، ابقَ، ولا تنضُب، وأخذت تحوط الماء بالحجارة، وهكذا بقي الماء محفوظا، ببئر زمزم جوار البيت العتيق، وأصبح البئر اسمه زمزم، أي الماء المحفوظ الذي لا يجري، وبذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يرحم الله أم إسماعيل! لو تركت زمزم لكانت عينًا معينًا”، وما إن رأى النبي إبراهيم، عليه السلام، ذلك الموقف والحدث الرهيب قَفُل عائدا إلى الرضيع إسماعيل وأمه، وصار يبحث عن أركان وقواعد البيت الحرام، حتى بناه لبنة لبنة، وجِيء بالحجر الأسود من جنان الخلد، وبقي مستقرا في الزاوية الشرقية بين باب الكعبة الشرقي، والركن اليماني، وهكذا بنى إبراهيم البيت العتيق، وهو يبني البيت ويرفع أركانه يقول: “رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ”.

وقُبلت دعوة النبي إبراهيم، عليه السلام، فأخذت وفود الحجيج تأتي إليه من كل حدب وصوب، ملبية ومهللة، ترجو الثواب، والغفران والمسامحة الإلهية من الذنوب المرتكبة، مرتدية الإحرام، ومجردة من كل عمل دنيوي، حتى من المخيط، تشبيها بالكفن الذي يرتديه المتوفون، لأن الحج المبرور لا جزاء له إلا الخلاص من الذنوب المرتكبة قبل الحج، فيرجع الحجاج كيوم ولدتهم أمهاتهم، محررين من كل ذنب وخطيئة، وقد أدّوا الركن الخامس من أركان الإسلام.

وهذا ديدن الوفود الحاجة، يضعون الكعبة ومنابرها ومآذنها نصب أعينهم، ويذهبون نحوها، فمنهم من يقضي نحبه في الرحلة الطويلة الشاقة، ومنهم من يرى الكعبة ويطوف بها، ويسعى ويكمل المناسك والمشاعر، التي علّمها لهم نبيهم الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة.

ففي اليوم التاسع من ذي الحجة، يتوافد الحجيج لابسين البياض الناصع، إلى مشعر عرفات، يقضون نهارهم بالعبادة، والتضرع لله تعالى، يعلون الهضاب والأباطح، ويتجولون بين تراب عرفات الطاهر ملبيين ومهللين، ويعتلون جبل عرفات متجهين نحو الكعبة، والبيت العتيق، يدعون الله تعالى حتى غروب شمس اليوم، وقد سمي جبل عرفات بهذا الاسم، لأن آدم عليه السلام وحواء حينما نزلا إلى الأرض؛ صار كل واحد يبحث عن الآخر، وهكذا حتى تعارفا فوق جبل عرفات، فسار الحجاج على سنتهم ليتعارفوا على الإيمان والعبادة فوق هذا الجبل الطاهر، ثم يفيض الحجاج نحو مشعر مزدلفة يبيتون ليلتهم، ثم فجرا يرحلون إلى منى، يرمون الجمار، ويتحللون من إحرامهم، ويذبحون الأضاحي في صباح عيد الأضحى المبارك، ويبقون في منى ثلاثة أيام، هي أيام التشريق، ثم يفيضون نحو البيت العتيق يطوفون حوله مودعيه بطواف الوداع، ثم يرحلون إلى أهاليهم وقلوبهم ملأى بالشوق إلى البيت الحرام مرة أخرى، مستقبلين بالأطايب، والرياحين، مستبشرين بما أتاهم ربهم من نعمة الإيمان والحج.

وما أجمل وأبلغ من أبيات شعرية، قالها الشاعر ابن الطثرية، واصفا الرحلة الإيمانية، وانتهاء مناسك الحج العظيم:

 ولَمَّــا قَضَــيْنَا مـِنْ مِنًــى كُـلَّ حَاجةٍ

ومَسَّــحَ بِالأَرْكــانِ مَــنْ هُوَ مَــاسِحُ

وشُدَّت على حُدْبِ المَهَارِى رحَالُنَا

ولــم يَنْظُرُ الغَــادِي الـذي هُوَ رَائحُ

أَخَـذْنَا بـأَطْـرافِ الأَحَــادِيثِ بَـيـْنـَنَا

وسالَتْ بِــأَعْنَــاقِ المَـطِىِّ الأَبَاطِـحُ 

فيعود الحجيج، وقد مُلئت قلوبهم إيمانا، وكُحلت أعينهم برؤية الكعبة المشرفة، وقد تجردوا من ذنوبهم الدنيوية بغفران ربهم، وبهذا حطت رحلة الحجيج هذا العام إلى الديار المقدسة من أرض الشام، التي باركها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي قصدها الله تعالى في سورة قريش. “لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ”، فرحلة الصيف كانت إلى الشام للتزود بأطايب ثمارها، وزيتها ودبسها، وقوتها الوفير، فهي البلدة الآمنة التي خص الله أمنها لقريش؛ لأنها سادنة الكعبة، سارت محافل الحجيج من الشام هذا العام بعد أن حرموا منها على مدار اثني عشر عاما، وقد طوفوا بالبيت العتيق.