سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

رؤية في خريطة الضالعين بمفاقمة الأزمة السورية

محمد عيسى (كاتب ومهندس)_

 المتأمِّلْ في أسباب وظروف انطلاق الأزمة السورية وفي استمرارها وتأخر انبلاج الضوء الواضح الذي ينير طريق حلها أو على الأقل التعثر في رصد الحل وملاحقته والسير بهديه، لا يسعه ــ بصرف النظر عن الاعتبارات والصراعات الدولية والإقليمية حول سوريا ــ إلا أن يتوقف عند الأسباب والعوامل الداخلية المتصلة بشكل عميق ببنية المجتمع السوري، وبالخصائص الثقافية والعرقية لشعوبه ومكوناته، وايضاً بالأبعاد التاريخية لذلك التنوع في النسيج الاجتماعي وفي سبل المحافظة عليه.
تلك العوامل التي يقع في مقدمتها حقيقة ثابتة مفادها أن البيئة السورية والسوريين عامة ــ شأن العديد من سكان دول منطقة الشرق الأوسط ــ ليسوا شعباً واحداً؛ بل يتشكلون من مكونات وأعراق متعددة وينحدرون في تشكيلاتهم التاريخية من ثقافات وخصائص قومية ودينية مختلفة، الأمر الذي يستدعي تشكل وعي جمعي حوله كمسلّمة موضوعية وكميزة حضارية تلعب دوراً في إثراء السِّمات الوطنية للدولة والمجتمع. هذه الحقيقة ــ التي تُوجب أن تكون في ألف باء تفكير النُّخب والجماعات والأحزاب السياسية الفاعلة ــ ما زالت تخلي مكانها في الذهن الجمعي لصالح مفاهيم وقيم قوموية ومذهبية مريضة في أغلب الأحيان نشأت في أحشاء العهد العثماني وتبالغ في اعتماد فكرة الأكثرية في نمطاً للتفكير القومي أو الديني.
يضاف إلى ذلك، وضمن السياق نفسه، استحكام منطق الفكرة الواحدة والذي أشِيع في الذهن الثقافي العام والعربي بشكل خاص خلال حقبة طويلة من الزمن، كالموقف مما كان يسمى بالإمبريالية أو الصهيونية أو الرجعية العربية، كحلقة أساسية في تقرير مستوى الالتزام بقضايا الوطن وفي قياس معدل الأخلاق الوطنية، الأمر الذي ساهم بتكريس تصورات طوباوية وجوفاء حول المعاني الوطنية وأضعف المضامين الاجتماعية للمسألة الوطنية بالإضافة إلى تشكيل شماعة استفادت منها قوى الفساد وتيارات الانتهازية السياسية وأعداء العدالة والديمقراطية. هذه الشعارات التي اضطلع بتسويقها إلى حدٍ كبير تيار اليسار في الأحزاب القومية والشيوعية خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وفي ظلال مرحلة الوحدة وما تلاها من توابع في الحركة الناصرية والبعثية والتي رسمت صورة نمطية تكاد تكون واحدة للعدو وللتحديات الكبرى التي تواجه الدولة والمجتمع تحديات جرى حصرها بالعدو الإسرائيلي والخطر الصهيوني؛ مما صرف الانتباه وأعطى فرصة  لأصحاب المشاريع الكبرى في تركيا وإيران وشركائهما في أنظمة الشمول والاستبداد للاستفراد في المجتمعات الشرق أوسطية وتجويفها عبر تعميق الأسلمة السياسية والطائفية وخلق البيئة المناسبة لنمو الإرهاب.
إلى ذلك يمكن الوصول إلى استنتاج لا يمكن الطعن بصوابيته، وهو أن المجتمع السوري في ظل الوضع الراهن وفي مناخ تكالب المشاريع والمخططات الإقليمية والدولية الساعية لهيكلته بما يخدم متطلباتها يعاني من انقسامات أفقية وصدوع بنيوية عميقة، ويتلون ضمن خارطة استقطابات وولاءات مازالت قاتمة إلا في النذر القليل وتقف على مسافة من طريق الحل.
فالسوريون “الدائرون في فلك الإسلام السياسي بشقيه السني التركي والشيعي الإيراني مَشدُودون إلى الماضي السحيق” لا يصلحون لبناء الأوطان ولا يتقنون، كما أثبتت التجارب، غير إثارة الفتن والأحقاد وامتهان الإرهاب. والنفر الآخر من السوريين المحسوب على الحركات الشيوعية في جزء كبير منه ما زال ملتصقا بمصطلحات الحرب الباردة التي كانت سائدة في القرن الماضي، وينظر إلى المسألة السورية وإلى موقف الروس منها وكأن الاتحاد السوفيتي القديم مازال قائماً، ويكرر الرهان على عوامل إيجابية في الموقف الروسي وفي شخص الرئيس بوتين.
أما الطرف المتمثل برؤية النظام الشمولي الاستبدادي المهيمن؛ فما زال في مقارباته لمسلك الحل منطلقاً من مفاهيم متكلِّسَة وتتحكم فيها نرجسية سياسية طافحة.
وإذا كان المغزى مما تقدم أنه يلقي الضوء على موقف لوحة القوى في خريطة التموضعات السورية، فمن الجدير ذكره: إن هذا المسح البانورامي لا يعكس إلا معطيات زاوية النظر الدارجة والواحدة التي تبين عوامل الإعاقة في البيئة السورية تجاه الحل المنشود، ففي المشهد السوري وعلى مسرح التطورات، مَن يقدم ويختبر وَصْفَة متكاملة تؤمن التئام الصدوع البنيوية ذات الجذور العرقية والاثنية فالدينية والفئوية في الجسد السوري الملتهب؛ إنه البرنامج الذي  يتبنى صيغة الدولة الوطنية (الدولة + الديمقراطية) التي تحيِّد نفسها عن معتقدات مكوناتها، الديمقراطية واللامركزية والتي تنأى بنفسها عن تبني أية هوية قومية أو دينية أو أيديولوجية.