سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

خطابُ الكراهية عصيٌّ على التعريفِ والضبطِ

إعداد / رامان آزاد –

رغم أنّ خطاب الكراهيّة يسبّبُ المآسي والصدامَ المسلّح، إلا أنّه لا اتفاقَ قانونيّ دوليّ قطعيّ حول تعريفِ خطابِ الكراهيةِ، والذي يتعارضُ مع مبادئ حريّةِ التعبيرِ والمساواة، كما أنّ المعاييرَ التطبيقيّةَ لقوانين مكافحةِ خطابِ الكراهيةِ قد تتضاربُ، ويستحيلُ توافقُها مع المبادئ اليقينيّة القانونيّة المطلوبِ وجودُها، وهذه المعايير عرضةٌ لإساءةِ التأويلِ وسوء التطبيق ما يقوّض حريات التعبير.
يّقصدُ بالكراهية المشاعر الحادّة والمتطرفة للغاية، ورفض الإقرارِ بالجماعةِ المستهدفةِ جزءاً أساسيّاً من المجتمعِ، على قدرِ المساواة بالمواطنة وإنكار حقها بممارسة حياتها الطبيعيّة ضمن خصوصيتها الثقافيّة وكذلك حقها بالمشاركة بالحياةِ السياسيّة والعامة، بل يُنظر إليها خطراً أمنيّاً بمجرد وجودها. وحسب دراسة موسّعة نشرتها منظمة “اليونسكو” التابعة للأمم المتحدة في كتابٍ خاصٍ قالت: إنّ من الإشكاليات الكبيرة حول خطابِ الكراهية أيضاً أنّه يمكنُ أن يطالَ شخصياتٍ بارزةً، أو يؤثّر على الرأي العام، لذا فالمفهومُ نفسه يمكنُ أن يكونَ محلَّ تلاعبٍ، وهو ما تفعله بعضُ الدولِ التي تستخدمُ “خطابَ الكراهية” ضد المعارضين السياسيين.
الكراهيةُ أداةٌ أساسيّةٌ لتأجيجِ الصراعِ السياسيّ، وذلك بوصفِ الخصوم بالإرهابِ والعداوةِ وعدمِ الوطنيّةِ، وبتوفرِ الركنِ المعنويّ تتحولُ الكراهيةِ إلى سلوكياتٍ غاية في القسوةِ (القتل، السجن، التعذيب)، وصولاً لتدميرِ المدنِ والقرى وتهجيرِ السكانِ بالتخويفِ والإرهابِ، كما في الحالة السوريّة وممارسات الدولة التركيّة ضد الكرد. عندما تتعرض تلك الجماعة، أو بعض أفرادها، لكارثةٍ ما، كما في جرائم الإبادة الجماعيّة أو مذبحة أو جريمة حرب … إلخ، يرفض دعاة الكراهية الاعتراف بتلك الجريمة، ويصرّون على نفيها، بل ينحازون مع الجناة ويلتمسون لهم العذر ويلومون الضحايا، في تبرير فاضح للجريمة. وما يحدث في عفرين اليوم وقبلها في شنكال وحرب الأنفال وحلبجة وما كتبه أسعد الزعبيّ وسواه بقصدِ التشفّي بقتل عشرات آلاف الكرد إلا غيضٌ من فيضٍ، فالتاريخ زاخرٌ بالأمثلة.
محددات خطاب الكراهية
في ظلّ غيابِ توافقٍ ثقافيّ ومجتمعيّ حول تعريفِ خطابِ الكراهيةِ، فإنّ ثمّة محدداتٍ يجبُ أخذُها بالاعتبارِ لتعريفِ الخطاب الخاضع للتقييد، وهي: السياق، المحتوى، التأثير، القصد، التكرار، احتمال الضرر، فالسياق يتعلقُ بتقييمِ فداحةِ الخطاب وتُقصد به الأطرُ الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة للفئة المستهدفة، وإمكانيّة وقوع حوادثَ عنفٍ ضدها، ومدى التمييزِ لهذه الفئة، وتوفر بيئةٍ سياسيّةٍ أو إعلاميّةٍ ضدّها.
التأثير هو مكانةُ ووظيفةُ المتكلم وصلاحياته ونطاق تأثيره على الجمهور، (هل هو سياسيّ، حزبيّ بارز، أو مسؤولٌ رفيعٌ أو رجلُ دينٍ أو شخصٌ يحظى باعتباراتٍ اجتماعيّة خاصّةٍ).
القصد أو نية المتحدث هو الركن المعنويّ أي تعمد المتحدث الواضح حشدَ مشاعرِ الكراهيةِ، واستهدافِ فئةٍ على أساسِ العرق أو اللون أو الدين، وأن يدرك العواقبَ المحتملةَ لخطابه، واللغة المستخدمة فيه. نيّة المتحدث بحشد مشاعر الكراهية والتحريض ضد جماعة معينة شرطٌ مذكور في العهد الدوليّ الخاص بالحقوق المدنيّة والسياسيّة، وأيضا في الإعلان الأمريكيّ لحقوق وواجبات الإنسان (AHCR). كما أنّ احتماليّة وقوع الضرر عاملٌ مهمٌ وهو ارتباط وقوع الضرر بالخطابِ وكنتيجة له، محتوى الخطاب وهو محدد مهمٌ، ويُقصد به مدى دعوة الخطاب المباشرة أو غير المباشرة للتّمييز أو العنف أو العِداء المجتمعيّ.
التكرار ونطاق الخطاب: وهو تقييم الخطاب على أساس الوسيلة لبثِّ الخطاب ومدى شدته وتردده، هل بُث في منشورٍ واحد؟  أم بُثَّ مراراً مع الإصرار على تكراره؟
ومن الأمثلة على تقييم خطاب الكراهية أنّ محكمةً دنماركيّة أدانت مذيع برنامج تلفزيونيّ عام 1994 لبثّه رسائلَ مثقلةٍ بالكراهيةِ من مجموعاتٍ عنصريّةٍ متطرفةٍ دنماركيّة، وقد عارضت المحكمة الأوروبيّة لحقوقِ الإنسانِ قرارَ المحكمةِ واعتبرته تعدّياً على حقِّ الصحفيّ بالتعبير وأخذت بعين الاعتبار أنّ التصريحاتِ العنصريّةَ بُثّت في برنامج يهدف إلى كشفِ أوجهِ العنصريّة في الدنمارك والتناول الجدّي لقضايا سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ.
وفي عام 1994، أدانت المحكمة الجنائية الدولية ثلاثة من العاملين في الراديو الرواندي (RTLM) لتحريضهم من خلاله على إبادة جماعة التوتسو في رواندا.
في 1998، أدانت محكمة ديار بكر رئيس وزراء تركيا الأسبق نجم الدين أربكان باقتراف ما وصفته بإثارة البغضاء، وحكمت عليه بالسجن لمدة سنة بسبب خطابه خلال حملته الانتخابية وكان أربكان قد وصف أعضاء البرلمان التركيّ العلمانيين بالكفار. ولكن، بعد مراجعةِ الحُكمِ بالمحكمة الأوروبيّة لحقوقِ الإنسان، عام 2006، أقرّت بأنَّ أربكان قلّصَ التعدديةَ إلى قسمةٍ بسيطةٍ بين المؤمنين وغير المؤمنين، وأن ذلك لم يكن سبباً مقنعاً لإدانته.
في القانونِ الدوليّ
الأصلُ في حرية التعبير وحرية الوصول إلى المعلومات هو الإباحة، والتّقييد هو الاستثناء، ولذلك فإنَّ “خطاب الكراهية” قد يُستثنى، والمهم هو منطلق تعريف الخطاب الذي أوجبَ تقييده وتجريم صاحبه، خاصّة أنّنا نعيش في بيئةٍ لا تقرُّ بحريةِ التعبير، وتشترطُ ترخيصَ المواقعِ الإلكترونيّة التي يصل محتواها إلى الجمهور، ويُلاحقُ من تجاوزَ حدودَ الكلامِ المسموحِ، تحت طائلة الربط المباشر باتهامات من قبيل (تقويض نظام الحكم، التعرض للأمن القوميّ والترويج لجماعات إرهابية). ولا يمكن الوثوقُ بأنظمةٍ شموليّة، تضيّق الخناقَ على حريةِ التعبير ولا تبادرُ بأيّ حوارٍ شعبيّ لإقرارِ القوانين لحماية المجتمع من خطاب الكراهية، فيُجرَّدُ المجتمعُ المدنيّ من الأدواتٌ الوقائيّة بمواجهة خطاب الكراهية.
ميّزت نصوص القوانين الدوليّة والمحليّة بين خطاب الكراهية وحق التعبير عن الرأي، إذ لا يُوضعُ قيدٌ على حقِّ الرأي في أيّ مسألة، إلا أنّ القيود والضوابط على التعبير تشترطُ احترامَ حقوقِ الآخرين وحماية الأمنِ القوميّ. وبذلك فإنّ مبررَ قوانين خطاب الكراهية استند لكونه يعارضُ قيمَ التسامحِ والعيشِ المشترك التي تحتاجها الجماعات البشريّة وتحرّض على القتل وتبرره، ويشملُ الحظرُ عباراتِ الإهانةِ والألقابِ بحقِّ أفراد المجتمع وفقاً لتمييزٍ عرقيّ أو دينيّ أو توجهٍ الجنسي. وتزداد أهمية القوانين في المجتمعات الحديثة المتعددة الثقافات.
بدأ التجاذب حول معايير تجريم خطاب الكراهية في 1961 بظهور الاتفاقية الدوليّة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصريّ (CERD)، وكانت أول اتفاقية دوليّة تجرّم خطاب الكراهية. وقد ورد في الفقرة الثانية من المادة 20 من العهد الدوليّ الخاص بالحقوق المدنيّة والسياسيّة (ICCPR): “تُحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تُشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف” وتحفظت دولٍ على المادة ورأت فيه تناقضاً مع حقِّ التعبير بحريّةٍ.
المادة 19 وما يعرف بمبادئ “كامدن” جاءت نتيجة مناقشاتٍ في الأمم المتحدة ومسؤولين آخرين وخبراء من المجتمع المدني وأكاديميين متخصصين في قانون حقوق الإنسان الدوليّ حول مواضيع حرية التعبير والمساواة في اجتماعات عقدت في لندن في 11/12/2008 وفي 23و24 شباط 2009. وتمثل هذه المبادئ تفسيراً تقدميّاً للقانون والمعايير الدوليّة ولممارسات الدولة المقبولة (كما تنعكس في القوانين الوطنيّة وأحكام المحاكم الوطنيّة وغيرها من المصادر)، والمبادئ العامة للقانون المعترف بها من قبل المجتمع الدوليّ.
كان الدافع الأساسيّ إلى تطوير هذه المبادئ الرغبة في تشجيع المزيد من التوافق في الآراء على الصعيد العالميّ حول التوازن ما بين احترام حرية التعبير وتعزيز المساواة. وترى المادة 19 أن هذه الحقوق مكملة لبعضها البعض، وهي ضرورية لوضع نظام عالميّ يحمي حقوق الإنسان. لقد تمَّ التركيز سابقاً على التوتر الذي قد ينشأ بين وجهاتِ النظرِ المتضاربةِ حول هذه الحقوق، بدلَ أن يتمَّ التشديدُ على العلاقاتِ الإيجابيّة فيما بينها. علاوة على ذلك، فإنَّ القانونَ الدوليَّ يقدّمُ أساساً لحلّ هذا التوتر كما هو محدد في هذه المبادئ.
في كلمة له خلال أعمال الدورة الأربعين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي عقد في جنيف في 25/2/2019 حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، من تصاعدِ خطاب الكراهيّة ضد الإسلام والأجانب والمهاجرين واللاجئين الذين يتم وصمهم بالإرهاب، لافتاً إلى أنّ هذه الظاهرة خطرُ يحدق بالديمقراطيّة ويتفشّى بشكل واضح، من خلال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعيّ، وتغذيها أحزاب كانت منبوذة ويزداد نفوذها الآن.
إساءة استخدام القانون
تحملُ الدولةً على عاتقها حمايةَ المجتمعِ من خطابِ الكراهيةِ ولكنها قد تستخدم أدواتِ القانونِ الفضفاضِ لوَسمِ مواطنيها بالإجرام لمجردِ تعبيرهم عن رأيهم، فتكسبَ الشعبيّة في لحظةِ استقطابٍ حرجة، أو تمنعَ خطاباً معارضاً.
تستغلُ بعضُ الدولِ والجماعات هذا المفهوم الفضفاض لتمريرِ قوانين تحدُّ من الحريات العامة كالدينيّة. ولأنّ أصول قوانين مكافحة خطاب الكراهية ينبع من أنظمة شموليّة تهدف إلى “تقييدِ الديمقراطيّة”، تنشأ قوانين الملاحقة الأمنيّة على اللغة. فتقوّض القيودُ المتعلقةُ بمنع خطاب الكراهية شرعيّة قوانين مكافحةِ التمييز، على مستوى القبول الشعبيّ وفيما يتعلق بأخلاقيات تنفيذها، فتتحول لسيف مشهر على الرقاب.
يمكن أن يسوغ قانون العقوبات بتعريفٍ فضفاضٍ لخطاب الكراهية بوضع التعبير عن الرأي جريمة، حين يقوم أحدهم بشتم الحاكم رمز من رموز الدولة أو الدين. وحتى في الدول الديمقراطية، فإن قوانين عقوبة خطاب الكراهية قد تضع بعض الجماعات فوق النقد، مثلاً قوانين معاداة السامية تستخدم أحياناً لقمع نقد إسرائيل وممارسات جيشها ضد الفلسطينيين. وكذلك، يوجّه البعض النقد للجماعات اليساريّة الغربية، كالنسوية، التي تتقدم المطالبين بهكذا قوانين ورقابتها على لغة مواقع التواصل الاجتماعيّ واستخدامها لمفهوم خطاب الكراهية لنعت كل ما لا يعجبها، يكون بعضه، أي الخطاب، جزءاً أساسياً من حرية التعبير القانونية فتمنع الرقابة الحوار الاجتماعي البناء ما يؤدي إلى ديكتاتورية لغوية اجتماعية لا ديمقراطية. بمعنى آخر، تظهر مشاكل تطبيق مفهوم خطاب الكراهية بشكل قانون نتيجة لتباينات بالقيم والأخلاقيات بنفس الدول أو المجتمع، أي الاختلاف فيما يعرفه الناس بكونه مناسب وغير مناسب.
وإذا كانت الدولة جادّة في محاربة خطاب الكراهية، فعليها مراجعة تأثير سياساتها وقراراتها في خلق بيئة مشجّعة لمثلِ هذا الخطاب، وإشراك مؤسسات المجتمعِ المدنيّ والهيئات المستقلة للوصول إلى تعريفٍ أكثر تحديداً لخطاب الكراهية الواجب ملاحقته قانونيّاً.
مؤكد أنّ ممارسة العنف بصورة العدوان سيُولّد مزيداً من مشاعر الكراهية وبالتالي ممارسة العنف المضاد، ولعل أحد أهم أهداف خطاب الكراهية هو استدراج مجموعة بشريّة لممارسة العنف بصورة المقاومة، وسرعان ما يتم توصيف المقاومة بالإرهاب ليكون مبرراً لمزيدٍ من العنف العدوانيّ.