سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

حماس حينما توقِظُ زبانية الحداثة الرأسمالية

شيار زاخو 

كل ما في الأمر إن ما كان يُحاك في الخفاء، ظهر إلى العلن وبات اللعب على المكشوف كما يُقال، وتم الدخول في المرحلة الثالثة من مشروع الشرق الأوسط الجديد/الكبير، وعليه سيتم تسخين جبهات مختلفة عمّا ألِفناه في العقد الأخير.

الكل سينسى ما حصل في سوريا وما حلَّ بها، وكذلك العراق وليبيا واليمن، وحتى الحرب الروسية الأوكرانية ربما ستكون في المرتبة الثانية، ﻷن ما هو قادم أعظم بكثير مما عايشناه ورأيناه. قالها نتنياهو في لحظة غضب ربما إن “المنطقة ستتغير”، ربما أسرع في الإفصاح عما يفكرون به في قادم الأيام وهو ما يحاول بوش الابن تداركه، ليتم تجهيز كافة الأمور وخاصةً غير المتوقعة، ولربما يتم إشعال جبهات عدة في نفس الوقت بهدف تشتيت الانتباه، ولن يبكي أحد على غزة حينها. إذ كلٌّ سيبكي على ليلاه ويتأقلم الناس عمَّا سيحل في غزة.

العملية التي تمت في فلسطين ضد اليهود في السابع من تشرين الأول في عهد بوش الابن تذكرنا كثيراً من حيث المنطق بما حدث في الحادي عشر من أيلول في نيويورك في عهد بوش اﻷب. إنهم الجمهوريون الذين يقلبون الطاولة على الكل، مع العلم أن اعتقال القائد عبد الله أوجلان أيضاً تم في مرحلة سيطرة الجمهوريون على مقاليد السلطة في إمبراطورية العم سام وكان كلينتون حينها هو الرئيس.

أعتقد أن حماس بما قامت به وكأنها أيقظت زبانية جهنم من نومهم التاريخي العميق، وسهلت لتحويل المنطقة إلى كرة من النار تلتهم الكل، وما نراه من همجية الدمار الإسرائيلي على غزة ما هو إلا الوجه الحقيقي لوحشية الحداثة الرأسمالية، وما العملية التي نفذتها حماس على الابن غير الشرعي لقوى الحداثة الرأسمالية أي إسرائيل، وإن كانت ثمة حقيقة تاريخية وجغرافية مخفية ضمنها، إلا أنه الكيان الذي من خلاله سيطرت الهيمنة الرأسمالية على منطقة الشرق اﻷوسط وسيَّرتها وفق مشاريعها خلال القرن المنصرم.

 وكأننا أمام حرب هرمجيدون قبل المحشر. معظم قوى الحداثة الرأسمالية تحشد عتادها وعديدها في المنطقة، وكأن مقولة ما قبل 7 أكتوبر لن تكون مثل قبله، مثلما أنه لم يكن العالم قبل 11 سبتمبر مثل ما بعده، تغيرت حينها الاصطفافات والتخندق تحت يافطة محاربة الإرهاب، وهو ما نعيشه مكرراً الآن.

وأعتقد أنه في العمليتين أن الهيمنة الرأسمالية العالمية ليست بريئة منهما بشكلٍ أو بآخر. وهي لعبة مصالح وأطماع بالنسبة لها ومشاريع مستقبلية للهيمنة على المنطقة، والضحية هو الشعب في كِلا الحالتين، إن كان في أفغانستان أو غزة. كم التكبيرات وشعارات الموت لأمريكا وإسرائيل، من قبل جماعات الإخوان المسلمين بمختلف مسمياتهم، هي هي لم تختلف كثيراً بعد أكثر من عقدين من الزمن.

في بداية العملية الكل يتشفى باليهود والأمريكان ومن يدور في فلكهم، ويتوعدهم بما هو أكثر من ذلك، لكن بعد ذلك الكل يتباكى، لتنهمر دموع التماسيح من عيونهم على الشعب وما حلّ به من دمار وخراب وقتل، ويتناسون بأن الهيمنة الرأسمالية العالمية لا يوجد في قاموسها شيء يسمى بـ “المجتمع، الشعب، الأطفال، النساء، جرحى، أخلاق”، كل ما يهمها هو مصالحها فقط وإن كانت على حساب المجتمع والشعب.

 وهو ما رأيناه في أفغانستان والعراق قبل عقدين وثلاثة، وفي سوريا واليمن وليبيا في العقد الأخير وكذلك ما حلَّ على الشعب الكردي إن كان في روج آفا أو إقليم كردستان وفي مخمور وشنكال وهجمات الدولة التركية بالأسلحة المحرمة دولياً.

ربما تستلهم إسرائيل نموذج الفاشية التركية في إفراغ غزة من سكانها، كما فعلت تركيا في الشمال السوري، وإفراغ عفرين وكري سبي/ تل أبيض وسري كانيه، من سكانها الأصليين وبعدها تبني المستوطنات من أجل عوائل المرتزقة، أي اتّباع سياسة القضم خطوة خطوة، ولن نتفاجأ عندما نعلم أن تركيا ورغم بكائها على سكان غزة، أن لها اليد الطولى في هذه الهجمات التي تطال المدنيين، وما قبول أردوغان على دخول قوات أجنبية إلى تركيا قبل أيام مما حدث في غزة، إلا إشارة واضحة أن ما يحاك خلف الستار أعظم بكثير مما نراه. مع أن تركيا ومن خلال ما يسمى بالبرلمان الذي يمرر “تفويض إرسال الجنود الأتراك إلى شمالي العراق وشمال سوريا كل سنتين”، لكن هذه المرة تم تمرير القرار بالإضافة إلى التفويض تم قبول دخول قوات أجنبية إلى تركيا، وهذا أول مرة يحدث، مما جعل الكثير من الكتّاب والسياسيين يتساءلون من هي هذه القوات الأجنبية؟ ومن أجل ماذا؟ ولماذا؟

وربما تستثمر تركيا الفرصة هذه المرة أيضاً وتحاول الدخول إلى مناطق في روج آفا مستغلةً الفوضى والتي تعمُّ المنطقة والعالم وفي وقتٍ كل اﻷعين متجهة إلى غزة، تستغل هذه الفرصة في قرارة نفسها وفق سياسة “مافي حدا أفضل من حدا”، يعني حلال لإسرائيل أن تحتل غزة وحرام علينا نحن الأتراك أن نحتل مناطق جديدة في روج آفا.

“ون منيت” حينما قالها أردوغان في مؤتمر دافوس لبنيامين نتنايهو، كررها شريكه في السلطة دولت بخشلي قبل أيام حينما قال أنه على تركيا أن تتخذ قراراها خلال “أربع وعشرين ساعة” من دقيقة واحدة وحتى يوم، يخفي الاثنين شراكتهما مع إسرائيل وقبولهم بكل ما يحدث في فلسطين. إنها لعبة المصالح والرياء ونفاق الحداثة الرأسمالية، التي تذرف الدموع على فلسطين وتتناسى من تعتقلهم وتقتلهم وتهجرهم من الكرد، وحتى بمقدورنا القول إنها لعبة النظم القومجية التي تتقن الرياء والنفاق بكل معنى الكلمة.

معظم أنظمة المنطقة تتباكى الآن على الشعب الفلسطيني وتعقد المؤتمرات الإقليمية والدولية تحت شعارات معلنة وهي إيقاف الحرب، ولكن الأهداف المضمرة والخفية غير ذلك وبعيدة عما يقولونه أمام الإعلام، حيث كل مخاوفهم هو ما صرّح به نتنياهو حينما قال إن “الشرق اﻷوسط سيتغير”. أي أن اﻷنظمة القوموية الموجودة سيتم تجاوزها الواحدة تلو اﻷخرى.

نفس العقلية عند كِلا النظامين الصهيوني والطوراني. اﻷول مشبع بالغريزة الدينوية والثاني متخم بالغريزة القوموية. وكِلاهما لا يتقبّلون اﻵخر إن كانت إسرائيل كما تزعم أن هذه اﻷرض هي لهم وحدهم وقد منحها الرب لهم، أو تركيا التي لا تتقبل أي ثقافة أخرى مختلفة. وباﻷساس أن تركيا تشكلت على جماجم الشعب الكردي والأرمني والعربي واﻵشوري السرياني.

بكل تأكيد أن لمقاومة الشعوب الكلمة الفصل في النهاية، ولكن ليس دائماً بكل تأكيد. بل حينما تمتلك الشعوب ذهنية جديدة ومنفتحة على البحث عن حلول لقضاياها خارج الصندوق وبعيداً عن التعصب الدينوي والقوموي، وإلا سيكون التكرار سيد الموقف وستعاش المجازر بشكلٍ دوري.

التفكير بشكلٍ مختلف هو ما أبدع فيه المفكر عبد الله أوجلان من خلال الفلسفة التي طرحها تحت اسم “اﻷمة الديمقراطية” والمعنيّة بحل معظم مشاكل المنطقة وقضاياها المستعصية منذ عقود على الحل.

مشروع اﻷمة الديمقراطية أثبت نجاحه في شمال سوريا في منطقة تُعرف باسم “روج آفا”. حيث في هذه الفلسفة الكل يعيش مع الكل ومن أجل الكل، بعكس السياسة الكلاسيكية المتبعة والمعتمدة على أن “الكل ضد الكل”. أساس فلسفة اﻷمة الديمقراطية هو التعايش المشترك وأخوّة الشعوب التي تؤمن بأن المنطقة هي عبارة عن مجموعة من الثقافات المتداخلة مع بعضها البعض ولا يمكن الفصل بينها بأي أسلوب كان، سواء إن كان بسكين القوموية أو الدين؛ ﻷن هذه الشعوب متعايشة مع بعضها البعض حتى قبل ظهور مصطلح القومية، لذلك؛ ومن أجل تدارك اﻷمر كي لا تنزلق المنطقة نحو اﻷسوأ، على الطرفين اليهودي والفلسطيني أن يفكرا في تجربة فلسفة القائد عبد الله أوجلان في الأمة الديمقراطية؛ ﻷنها مستقبل المنطقة التي كانت وستبقى منبع المفاهيم الجديدة والحلّالة لكافة القضايا والمشاكل التي تعاني منها المنطقة.