سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

حظوظ بغداد في رعاية المصالحة بين أنقرة ودمشق

بدرخان نوري_

كان إعلان رئيس الوزراء العراقيّ محمد شياع السوداني عن مبادرة لتطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة، إيحاءً بأنّ المسألة أصبحت أمراً واقعاً، وأن الجانبين متفقان حولها، وأنّ أشواطاً لم يُعلن عنها قد قُطعت في هذا الإطار، وتأتي المساعي العراقيّة بعد جمود المسار التصالحيّ، الذي رعته موسكو، وعقد سلسلة اجتماعات، فيما لم تتجاوز المبادرة الإيرانيّة أطر الإعلان والنوايا. ولكن؛ الغريب أن ترعى بغداد مبادرة تصالح تشترط انسحاباً تركيّاً من سوريا، فيما أقامت أنقرة العديد من القواعد العسكريّة على الأراضي العراقية، وتواصل قصف مواقع فيها.
إعلان مبادرة بغداد  
أعلن رئيس الوزراء العراقيّ محمد شياع السوداني، في مقابلة مع قناة خبر تورك التركيّة، نشرت الجمعة 31/5/2024، أنّ حكومته تعملُ على المصالحة بين أنقرة ودمشق. وقال السودانيّ: “إن شاء الله، سنرى بعض الخطوات في هذا الصدد قريباً”، مضيفاً أنّه على اتصال مع الجانبين بهذا الشأن.
وأشار السودانيّ إلى دور بلاده في اتفاق التطبيع بين طهران والرياض: “نحاول التوصل إلى أساسٍ مماثل للمصالحةِ والحوار بين سوريا وتركيا”. وكان العراق قد استضاف سلسلة محادثات بين إيران والسعودية قبل التوصل لاتفاقٍ لعبت فيه بكين دورَ الوساطةِ لاستئناف العلاقات الدبلوماسيّة بين الجانبين.
وقال السوداني: إن مصادر التهديدات الأمنية، التي تواجه العراق وسوريا تنبع من المناطق السوريّة، “التي لا تسيطر عليها الحكومة السوريّة”، ويقصد بذلك إقليم شمال وشرق سوريا، وبذلك يفهم بعد آخر للمبادرة العراقيّة يتوافق مع توجهات أنقرة. وجاءت تصريحاته بعد زيارة أردوغان إلى بغداد في 22/4/2024، وهي الأولى من نوعها منذ أكثر من عقد. وبالتزامن مع الزيارة تم تداول مسعى تركيّ للحصول على ضوء أخضر لتركيا للتوغل 40 كم في باشور كردستان “شمالي العراق” بذريعة حماية حدودها، ويقصد به قطع التواصل الجغرافيّ بين شمال سوريا وإقليم كردستان، ليجعل ذلك ثمن موافقة أنقرة للموافقة على مشروع طريق التنمية، والذي يشمل مشروع سكك حديد وطرق بريّة لربط تركيا، بأوروبا والخليج.
وكان السوداني أول رئيس وزراء عراقيّ يزور دمشق منذ 13 عاماً في 16/7/2023، بعد توليه منصبه عام 2022. كما أجرى رئيس الوزراء العراقيّ محادثات أمنيّة مع وزير الداخليّة السوريّ محمد الرحمون في بغداد في 12/5/2024. وأجرى رئيس “الحشد الشعبي”، فالح الفياض، زيارة إلى دمشق في 6/5/2024، والتقى ونقل رسالة من السودانيّ تناولت ملفات عديدة وفقاً لبيان صدر حول الزيارة.
وفي 5/6/2024، تحدث مصدر حكوميّ عراقيّ، عن اجتماع مرتقب بين مسؤولين من النظام السوريّ، وتركيا في العاصمة العراقيّة بغداد قريباً. وأفادت وكالة “شفق نيوز” العراقيّة، نقلاً عن مصدر حكومي مطلع، بأن مساعي العراق لتخفيف الخلافات بين سوريا وتركيا وإعادة العلاقات بين البلدين؛ أثمرت اتفاقاً لعقد اجتماع بين دمشق وأنقرة في بغداد قريباً. وأضافت الوكالة، أن رئيس الوزراء العراقيّ، محمد شياع السوداني، يسعى لمصالحة البلدين وإعادة العلاقات إلى سابق عهدها. وقد اتفق مع مسؤولين من النظام السوريّ، وتركيا على الجلوس معاً في بغداد لمناقشة الأمور العالقة.
وفي 4/6/2024، أكد وزير خارجية حكومة دمشق فيصل المقداد، أنّ الشرط الأساسيّ لأيّ حوار سوريّ ــ تركيّ هو إعلان أنقرة استعدادها للانسحابِ من الأراضي السوريّة. وأوضح خلال لقائه نظيره الإيرانيّ، علي باقري كني، في دمشق، أنّ سوريا تطالب بتعهداتٍ تركيّة دقيقة تعكس التزام أنقرة بالانسحاب من الأراضي السوريّة، ووقف دعمها للتنظيمات الإرهابيّة.
على ماذا تعوّل بغداد؟
جوهريّاً تعوّل الحكومة العراقيّة على القرب الجغرافيّ الذي يفرضُ إيقاعه على العلاقات الثنائيّة والملفات المشتركة، فيما لا تملك بغداد نقاط قوة تمكّنها من إلزام الطرفين، وعلى الأساس القرب الجغرافيّ أيضاً بذلت بغداد فيما سبق جهوداً تمهيديّة للمصالحة بين طهران والرياض، والتي تُوجتها وساطة صينية بتوقيع اتفاق إعادة العلاقات بين البلدين في بكين في 10/3/2023، بعد سبع سنوات من القطيعة السياسيّة والدبلوماسية، على خلفية مهاجمة إيرانيين مقرات دبلوماسيّة سعوديّة في إيران احتجاجاً على إعدام الرياض رجل الدين الشيعيّ نمر النمر.
لكن الأمر يختلف بين دمشق وأنقرة مع وجود جيش تركي يحتل مساحات واسعة من شمالي، وشمال غربي البلاد، ودعم أنقرة لمجاميع المرتزقة بمسميات مختلفة وأسباب سياسة الحدود المفتوحة لتدفق آلاف المرتزقة من مختف دول العالم، والدور التركيّ يتجاوز مجرد التدخل في مسار الأزمة، ليكون واقعاً أحد أهم أسبابها. والمفارقة أنّ بغداد تتبنّى مبادرة المصالحة بين أنقرة ودمشق، وقد زارها أردوغان رغم وجود الكثير من القواعد العسكريّة على الأراضي العراقيّة، ويقصف جيش الاحتلال التركيّ بشكل مستمر مواقع على الأراضي العراقيّة، وهذا ما يُفقد مبادرة بغداد عوامل القوة والجديّة، ولتطرح أسئلة أكثر عمقاً عن توقيت ودوافع المبادرة.  الحقيقة أنَّ الدور العراقيّ في المصالحة بين طهران والرياض، كان لوجستيّاً والإيقاع الصينيّ كان أعلى، فيما الملفات بالغة التعقيد بين أنقرة ودمشق، والأمر يتجاوز توفير تسهيلات لوجستيّة، لأنّ مسؤولي الجانبين سبق أن التقوا على مستويات مختلفة، ولم تسفر الاجتماعات عن تقدم ملحوظ بسبب فقدان عامل الثقة، وسعت حكومة العدالة والتنمية إلى توظيف مسار التصالح لأغراض انتخابيّة لسحب هذا الملف من يد المعارضة التركيّة، وبذلك كانت التصريحات التركيّة تتسم بالحماس في سياق مناسباتيّ، دون جديّة واضحة.
إن حجمَ الملفات المختلفة حولها، أنقرة ودمشق كبير ومتداخل، ومعقد ويصعب التفاؤل في إمكانيّة إحداث اختراق فيها، ولا تملك بغداد عمليّاً ميزات مؤثرة في مسار خلاف لموسكو، التي لديها أوراق مؤثرة لإنجاح المصالحة فهي حليفة الطرفين. ورغم ذلك فشلت في مسعاها. بل إنّ تصريحات المسؤولين الأتراك، والأسلوب الذي تتعاطى به أنقرة مع الأزمة السوريّة ولغتها العدائيّة لا ينبئ بإمكانيّة التصالح، ولا يمكن إقامة سلام مع أردوغان المهووس بالتاريخ العثمانيّ، والذي يعدُّ نفسه خليفة العثمانيّ “محمد الفاتح”، وبالوقت نفسه يرى نفسه قد تجاوز مصطفى كمال أتاتورك. والمشكلة تبدأ من الأيديولوجيا التي يتبناها حزب العدالة والتنمية والنظر إلى سوريا على أنّها “ولاية عثمانيّة”، ولطالما قال المسؤولون الأتراك: إنّ سكان مناطق شمالي سوريا يعيشون في جغرافيا الميثاق المليّ، وأشار أردوغان إلى أنّ “جنوده لا يقاتلون خارج حدود تركيا”. وهو ما ينطوي على إنكار السيادة السوريّة. واتبعت أنقرة في المناطق، التي تحتلها سياسات تتريك شاملة، وتغيير ديمغرافيّ لإدامة الاحتلال وتثبيته.
مساعٍ روسية وإيرانيّة 
تربط موسكو بأنقرة علاقات اقتصاديّة وطيدة أساسها تصدير الغاز عبر الأراضي التركيّة، فيما التنسيق السياسيّ حول سوريا في مستوى متقدم منذ لقاء سان بطرسبرغ في 9/8/2016، وفي إطار هذا التنسيق تم تأسيس ترويكا أستانة، وإحداث تغييرات ميدانيّة، وإنشاء مناطق خفض التصعيد، وقد استضافت موسكو اجتماعات رفيعة في سياق المصالحة بين أنقرة ودمشق على مستوى وزراء دفاع البلدين في 28/12/2022، ووزراء الخارجية في 10/5/2023، فيما لا يعرف تحديداً عدد الاجتماعات الأمنيّة إذ لم يُعلن رسمياً عنها، إلا أنّ كلّ تلك الجهود فشلت بالتوصل إلى تعهد تركيّ رسميّ بالانسحاب من سوريا. وصرح نائب وزير الخارجية الروسيّ، ميخائيل بوغدانوف، في 20/9/2023، أنّ موسكو تعمل على تحسين خارطة طريق بشأن العلاقات بين أنقرة ودمشق.
وفي 29/1/2024 أعلنت موسكو، انهيار مسار التقارب بين أنقرة ودمشق، وأوضح المبعوث الخاص للرئيس الروسيّ إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، أنّ مسار التقارب توقف في نهاية الخريف الماضي بسبب مطالبة حكومة دمشق بضمانات من تركيا بشأن انسحاب قواتها من سوريا على المدى الطويل، وفقاً لوكالة “تاس” الروسيّة.
طرحت موسكو مراراً صيغة اتفاق أضنة كأرضيّة للحوار والتفاهم، ولكن هل هذه الاتفاقية متوازنة، وتحفظ الندية بين طرفيها، أم تعطيها أرجحيّة لطرف دون آخر؟ والواقع أنّ اتفاق أضنة أمنيّ خالص، ورغم ذلك تم ربط ملف حصص المياه به، وبالمجمل؛ فإنّ أيّ اتفاق بين أنقرة ودمشق يتضمن ثلاثة مسارات أساسيّة عناوينها: الأرض والمياه، والأمن، وإن كانت دمشق قد حاولت وفق معطيات سياسيّة في مرحلة سابقة استثمار الملف الأمنيّ لتحسين شروط تفاوضها مع أنقرة، فإنها اليوم بعد أكثر من 12 سنة من الأزمة، وتدخل أطراف عديدة مباشرة في شؤونها الداخليّة، ما عادت تملك تلك الإمكانيّة. فقد حوّلت أنقرة الكيانات المسلحة إلى مرتزقة تعمل لصالح أجندتها داخل سوريا، وحتى خارجها للقتال في ليبيا وأذربيجان.
وقّعت سوريا وتركيا اتفاقية أضنة في 20/10/1998 عقب توتر بين البلدين ووساطة إيرانيّة ومصريّة، وتضمنت الاتفاقية أربعة ملاحق سريّة، ويمنح الملحق الرابع أنقرة صلاحية التدخل في الأراضي السوريّة بعمق خمسة كيلو مترات. والحقيقة أنّ توقيع الاتفاقية حينها كان تصديراً للقضية الكرديّة عبر الحدود، وتشويهاً لها، بحصرها في الإطار الأمنيّ في تجاهل مطلق للبعد الحقوقيّ للشعب الكرديّ، وحديث موسكو عن تفعيل هذه الاتفاقية إمعانٌ في التجاهل، وشرعنة للاحتلال التركيّ وعدوانها المستمر، وتغاضٍ عن حقيقة أنّ الجانب التركيّ كان على مدى سنوات الأزمة السوريّة مصدر كلّ التهديدات والمخاطر على السوريّين. وأيّ اتفاق قادم يجب أن يكون متوازناً في تحقيق النديّة بين الطرفين وكذلك في إجراءاتها وتدابيرها وضماناتها.
طهران كانت قد سبقت موسكو في جهود الوساطة بين دمشق وأنقرة، وزار محمد جواد ظريف، وزير الخارجيّة الإيرانيّ، أنقرة في 17/4/2019، بعد زيارته إلى دمشق وكان لافتاً قوله خلاله مؤتمر صحفيّ مع نظيره التركيّ جاويش أوغلو: “سنعمل على إعادة العلاقات إلى طبيعتها بين تركيا وسوريا، ونتفهّم مخاوف تركيا من التّهديدات الإرهابيّة”. وواضح أنّ التصريح انطوى على تناغم مع موقف أنقرة وادعاءاتها الافتراضيّة.
التصريح نفسه قاله وزير الخارجية الإيرانيّ حسين أمير عبد اللهيان في دمشق في 1/7/2022: “أعلنا استعدادنا لتقديم حلٍّ سياسيّ واستعدادنا للمساعدة في هذا الصدد”. وأكّد أن بلاده ستبذل قصارى جهدها لمنع شن عملية عسكرية، مشيراً إلى أنّه تحدث أيضاً إلى المسؤولين الأتراك حول حلٍّ دبلوماسيّ.
لا مؤشرات إيجابيّة 
إذا كان المطلوب البدء من نقطة ما تكون خريطة طريق للمصالحة بين أنقرة ودمشق، فهو حتماً الانسحاب التركيّ الكامل من سوريا ووقف التدخل في الشأن الداخليّ السوريّ، والبداية من إجراءات الثقة عبر تأكيد الاستعداد للانسحاب، والتي تشمل وقف التتريك وممارسات الانتهاكات في المناطق المحتلة.
بالتوازي مع الاهتمام السياسيّ والإعلاميّ للوساطة العراقيّة للمصالحة بين دمشق وأنقرة، كشف مبعوث الرئيس الروسيّ الخاص إلى سوريا، ألكسندر يفيموف، العمل على وضع مسودة “خريطة الطريق” خاصة بتطوير العلاقات السوريّة – التركيّة، وأنّه من المقرر أن “تجري المناقشة الأولى لنص هذه الوثيقة في الوقت القريب”، ولفت المسؤول الروسيّ في حديث إلى صحيفة “الوطن” المقرّبة من حكومة دمشق ونشر في 11/6/2024، إلى أنّ “مواقف الطرفين لا تزال بعيدة عن بعضها”، وأنّه من الصعب في غضون أسابيع أو أشهر قليلة استعادة ما تمّ تدميره في اثني عشر عاماً”؛ إذ ينتظرنا “الكثير من العمل الشاق في هذا الاتجاه”.
لعل نموذج تدخل تركيا في قبرص واضح للعيان، فبعد سقوط الدولة العثمانيّة، والتي توسعت وحكمت لأربعة قرون مساحات واسعة، واستثمرت الدين للبقاء، فإنّ تركيا لا يسعها منذ عقود إلا الاستثمار في بعدين، الإسلام السياسيّ، والمتمثل بتنظيم الإخوان المسلمين، والقوميّة التركيّة، وكانت قبرص نموذج الاستثمار القوميّ، ومنذ بداية الأزمة السوريّة عملت على إيجاد قضية قوميّة لتركمان سوريا، واعتمدت على الإخوان المسلمين بالدرجة الثانية. ولا يمكن الثقة بمواقف أنقرة التي يقودها ثنائيّ حزب العدالة والتنمية والحركة القوميّة، وقد طرح أردوغان نموذجاً مختلفاً للحدود غير تلك التي تفصل بين كيانات سياديّة الممثلة بالدول، فتحدث عن الحدود القلبيّة، ليحرض الجانب العاطفيّ في سياق تجنيد، وتطويع أبناء المنطقة لصالح أجندته التوسعيّة، وتلك الحدود القلبيّة لا وجود للكرد ولقضيتهم فيها، ويقصد بالحدود القلبيّة المناطق التي كانت خاضعة للاحتلال العثمانيّ، قبل قرن ونيف، في مسعى للترويج لمرحلة تجاوزها التاريخ!
الحديثُ عن مصالحةٍ بين أنقرة ودمشق لا يخرجُ عن أطرِ الأجنداتِ السياسيّةِ، والتي كانت السببَ الأساسيّ في إطالةِ أمدِ الأزمةِ السوريّة وتعميقها وعرقلة الحلّ السياسيّ عبر الحوار السوريّ ــ السوريّ، ولن يُكتب النجاح لأيّ مسعى تصالحيّ ما لم ينطلق من مصالح شعوبِ المنطقة، والتي تقوم أساساً على السلام والعيش المشترك في إطار جغرافيّ محكومٍ بالتعدديّة.