سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

حراك السويداء… مطالبٌ شعبية وآمالٌ معلقة بالتغيير

حمزة حرب_

في ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء لا زالت الحناجر تصدح، ولا زالت العناوين تتمحور حول التغيير السياسي و”إسقاط النظام” في حراكٍ احتجاجي سلميٍ يأبى الانجرار إلى العنف مهما حاولت حكومة دمشق جاهدة تكرار سيناريو 2011 في السويداء عبر جر الحراك الشعبي إلى مواجهة عسكرية؛ لشرعنة استخدام العنف تجاه المحتجين أو تفعيل القبضة الأمنية، التي بات المحتجون يرفضونها رفضاً قاطعاً آملين في إقامة نظام ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان، مطالبين تشكيل حكومة انتقالية تقود البلاد نحو الديمقراطية من خلال إجراء انتخابات تعبر عن إرادة الشعب، لكن ومع ذلك يعدُّ الكثير أن هذه المطالب فضفاضة تحتاج إلى وضع خارطة طريقٍ عملية وديناميكية تسرع الوصول إلى تحقيق مطالب المحتجين الغاضبين من الواقع المعاش على الأرض.
إهمال حكومة دمشق
سرعان ما تطور الأمر من مطالباتٍ معيشية، لم تعر لها حكومة دمشق أي اهتمام، إلى تظاهرات تطالب بالحقوق الأساسية والتغيير السياسي، إذ وصل الكثير من أهالي السويداء إلى نقطة فقدان الأمل تماماً في إمكانية تحسين الوضع الراهن؛ لأنه قائم أصلاً على أسس القمع والتهميش ليتملكهم الإيمان بأن التغيير الجذري والشامل هو السبيل الوحيد لتحقيق الإصلاحات المطلوبة، والعيش في مجتمع يحترم حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
فالاحتجاجات والحراك الشعبي في السويداء جاءا نتيجة حتمية لمشكلاتٍ تراكمية، حجرها الأساس كان الظروف المعيشية، التي تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، خصوصاً بعد إصدار قرارات متعلقة برفع الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية للعيش، وتدهور سعر صرف الليرة السورية مع دخل المواطن المتدني، مهما صدرت قرارات زيادة في رواتب العاملين الحكوميين، التي لم تتجاوز مع كل هذه القرارات 20 دولاراً في أفضل الأحوال إلى جانب عديد المشكلات الاجتماعية، والقمع السياسي وغيرها من العوامل التي ساهمت في نمو الاستياء والغضب ضد حكومة دمشق، وولّدت الحاجة الملحّة إلى التغيير.
وهذه المطالب بضرورة التغيير، هي ذاتها التي شرع السوريون إلى إشهارها في حراكهم الشعبي، الذي انطلق عام 2011 لكن تمكنت حكومة دمشق وبعض الأطراف الإقليمية والدولية حرفها عن مسارها، وتعقيد مطالب المحتجين؛ لتتحول إلى أزمة مستعصية عن الحل وعن تحقيق المطالب المحقة فيها، وقد باتت بعيدة المنال بسبب وضع العصي في عجلة تحقيق العدالة والحرية.
أما في السويداء التي عدَّ كثير من المراقبين، أن ما يحدث فيها هو ارتداد حتمي لما شهدته البلاد منذ 2011 وإلى اليوم فوصلت المدينة إلى عتبة الانفجار، بإزالة الرموز التي تمثل حكومة دمشق بما في ذلك صور رئيسها وأعلام حزب البعث من داخل المؤسسات الرسمية، وعن معظم الأبنية على امتداد كامل المدينة.
وتم اتخاذ ساحة الكرامة ساحة رسمية للاحتجاجات الشعبية، كما تمّ إسدالُ يافطة عريضة على كامل مبنى مديرية المالية المطلّ على الساحة تحمل الرقم 2254 في إشارة إلى الالتزام بالقرارات الأممية، وضرورة الإسراع في تطبيقه، وجعله محوراً أساسياً في حلقة الاحتجاجات الشعبية، التي عمت أرجاء المدينة.
دور شيوخ العقل في الحراك
الوضع الديموغرافي والجغرافي أضافا طابعاً خاصاً إلى الحياة السياسية والاجتماعية في مدينة السويداء، وهذا ما دفع حكومة دمشق ألا تظهر الشدة والتصلب ذاته، الذي أظهرته في مناطق أخرى عندما خرجت تنادي بالتغيير الجذري في البلاد، لكنها استخدمت تكتيكاتٍ مختلفة كالترهيب والخوف القائم على انتشار الخطف والفدى وإغراق المدينة بالمخدرات والكبتاغون، وجعلها منطقة عبور نحو دول الخليج إلى جانب فتح المجال أمام مرتزقة داعش؛ كي ينفذوا اعتداءات إرهابية انطلاقاً من البادية السورية وصولاً إلى مدينة السويداء في الجنوب.
أدرك أهالي السويداء المشهد والتمسوا استراتيجية التعامل التي تنتهجها حكومة دمشق؛ ليتجهوا نحو شيوخ العقل منذ بدء الحراك الذي أصبح الشيخ الهجري شخصيته المركزية، بعد أن أصدر بياناً مؤيداً للتظاهرات ونجح في توحيد مكونين كبيرين في المحافظة، حيث دعمت حركة رجال الكرامة الشيخ الهجري، كما زار ليث البلعوس قائد أكبر مكونات المحافظة مضافة الهجري داعماً إياه، وبهذا تم جمع أكبر مكونات الجبل تحت راية الحراك، بعد أسبوع، ظهر شيخ العقل وائل الحناوي في القسم الجنوبي من المحافظة، داعماً المحتجين في زيارته الأولى لبلدة القريا، وبهذا ازدادت قوة الحراك بفضل دعم الشيخ حكمت الهجري الرئيس الروحي للموحدين الدروز في سوريا فمنح الحراك شرعية وزخماً أقوى.
ليلتقي بعد ذلك وفد من المحتجين بشيخ العقل يوسف الجربوع المقرّب من حكومة دمشق، وأصدر الشيخان الحناوي والجربوع بياناً مشتركاً يدعمان فيه الحراك بصورة تقتصر على الأمور الخدمية والمعيشية، فطالبا حكومة دمشق بالتراجع عن قرار رفع الدعم عن المحروقات، وإعادة تشكيل حكومة جديدة واستمر حضور الحناوي في دعمه للاحتجاجات، بينما غاب الشيخ جربوع عن هذا المشهد لاحقاً لأسبابٍ يراها البعض تعود لقربه من دمشق.
تحولت فيما بعد مضافة الشيخ الهجري مكاناً يجتمع فيه السياسيون المعارضون لمناقشة الحراك السياسي، والحصول على مشورته وتوجيهاته، التي يصر فيها في كل مناسبة على التمسك بالسلمية التامة، مهما حاولت دمشق استفزاز الحراك ليتلقى الهجري اتصالات من مسؤولين أميركيين وغربيين يعرضون الدعم، الذي رفضه على ما يبدو، مؤكداً أنهم سوريون قادرون على إحداث التغيير الحقيقي دون اللجوء إلى التدخلات الخارجية في الوضع السياسي في سوريا.
فيما تبين مصادر مطلعة على أن الشيخ الهجري شدد في أكثر من مناسبة أهمية العلمانية في الدولة، والبعد الوطني لحراك السويداء، وإذا كان لهذه القيادات الدينية أن تلعب دوراً في توجيه وتعزيز الحراك، فمن الواجب أيضاً التفكير في التحديات والتوترات المحتملة المتعلقة بذلك، مثل التأثير على فصل الدين عن الدولة.
حزب البعث ومحاولات حرف المسار
تم تعطيل معظم مؤسسات الحكومة بشكلٍ متعمد للتأثير على الحراك وتحميله مسؤولية عرقلة تسيير الأمور الخدمية، ومنها القضائية، والتي حاول المحتجون نزع قبضة حزب البعث عنها، وجعلها مؤسساتٍ مستقلة عن التسييس الحكومي، واستقلاليتها عن التجييش والتحريض. لذا؛ المحتجون أغلقوا أبواب مقر فرع حزب البعث في المدينة بشكلٍ تام.
لم تتمكن حكومة دمشق في هذه الأثناء من حشد شارع موالٍ لها في المدينة، مقابل الشارع المحتجّ، الذي يعتصم بساحة الكرامة، واقتصر نشاط أنصار حزب البعث على تنظيم وقفة أمام اتحاد الصحفيين في المدينة لتكون ذروة الصدام بشأن إغلاق مقر حزب البعث في 13 أيلول عندما تعرَّضَ المحتجون لإطلاق نار من المقرّ أثناء محاولتهم إعادة إغلاقه، بعد أن تمكنت الحكومة من فتحه مجدداً.
مصادر محلية أكدت، أن المحتجين تمكنوا من السيطرة سلمياً على مقرات الفرق الحزبية، وتحويلها إلى مراكز خدمية تساعد في تسيير الحياة اليومية للمدنيين، فيما قابلت دمشق هذه الإجراءات بمنع أمناء الفرق من استلام اللوجستيات الموجودة داخل المباني، كي لا يتم الاعتراف بفقدان السيطرة على المقرات فعلياً، ما دفع المحتجين إلى تسليمها لوجهاء محليين دون الإضرار أو إتلاف أي منها.
كما أضافت المصادر أنه وعلى الرغم من محاولات البعثيين جر الشارع إلى النزاع المسلح، منذ حادثة القصر العدلي وما تلاه من استفزازاتٍ متفرقة، إلا أن حزب البعث فقد مكانته داخل المدينة، واقتصر عمل منتسبيه على الاجتماع داخل البيوت، ومراقبة الشارع لرفع التقارير الدورية إلى دمشق والأفرع والأجهزة الأمنية.
أما المحتجون الذين تعرضوا للاستفزاز أكثر من مناسبة وبقوا محافظين على سلمية حراكهم، توجّهوا بعد أن تعرضوا لإطلاق النار المباشر عليهم إلى مضافة الشيخ الهجري، مطالبين إياه بقرار يمنع حزب البعث في السويداء، تريَّثَ الشيخ بهذا الشأن قائلاً: إنه رجل دين لا رجل سياسة.
بينما استغل حزب البعث حالة عدم التوافق التام في صفوف شيوخ العقل، فعقد اجتماعاً في مضافة آل الأطرش بحضور شيخ العقل يوسف جربوع، وذلك بهدف اتخاذ موقف داعم لحكومة دمشق، ولحزب البعث، الذي بدا موقفه أضعف من أي وقتٍ مضى داخل المدينة، فخرج الاجتماع ببيان وصف بأنه مسكٌ للعصا من المنتصف، حيث أقر البيان بوجود مطالب مشروعة للمدنيين، مع التحفظ على الشكل الذي تخرج به الاحتجاجات والمضامين السياسية، التي تطالب بها محاولاً حرف المسار على أن المطالب هي خدمية معيشية وليست تغييرية إصلاحية.
مشاركة النساء في الحراك الشعبي في السويداء
النساء أثبتن حضوراً بارزاً في الحراك الشعبي وشكلن تحولاً ملحوظاً، ونمواً مستمراً بما أنهن لم يسبق لهن، أن يشاركن بهذه الفعالية، وكانت مشاركتهن محدودة في المجالات العامة والسياسية، إلا أنهن لعبن أدواراً فعالة في هذه الاحتجاجات بدءاً من جهودهن في التأثير على السياسات العامة والدفاع عن قضاياهن، فغيرن واقعهن من مجرد مشاركات بنسب محدودة لا فاعلات، بل وقائداتٍ لمظاهرات في كثير من الأحيان سعياً إلى إحداث تغيير إيجابي مستدام في المجتمع، من خلال مشاركتهن الواسعة والمطالبة بالمساواة، والعدالة والحرية والتغيير السياسي.
فالنساء أدت أدواراً محورية سواء عبر تقديم الدعم اللوجستي، أو المساهمة في تنظيم الفعاليات، أو حتى نشر الوعي السياسي والمشاركة في تشكيل اللجان الشعبية التي تقود الحراك، والتأثير على الرأي العام الداخلي والخارجي؛ فأصبح لهن دور مهم في تحفيز الكثيرين وفي الحشد للمشاركة، من خلال المشاركة في التنسيقيات وتنظيم الحراك. لتؤكد مصادر ميدانية أن هذه المشاركة كانت حاسمة لأسباب عدة، منها التنوع والتمثيل، إذ تضمن هذه المشاركة تنوع الآراء والأفكار، وتساهم في إبراز قضايا واحتياجات محددة، يُحتمل ألَّا تبرز بقوة في غيابهن، كما أن النساء المشاركات يحملن مجموعة من الخبرات والمهارات التي يمكن أن تغني الحراك، وتساهم في نجاحه، ويمكن لوجودهن ومشاركتهن أن يحفّز المجتمع، ويعزز الروح المعنوية، ويشجع على المزيد من المشاركة والتفاعل.
كما ساهمن في تحديد ومناقشة القضايا، التي تؤثر على النساء، وضمان أن تكون جزءاً من الأجندة العامة للحراك، إلى جانب التركيز على تعزيز هذه المشاركة التي يمكن أن تحقق حراكاً أكثر فعالية وشمولية؛ لأنهن يسعين إلى المساهمة في تحقيق تغيير إيجابي يعكس آمال وتطلعات أفراد المجتمع، ويسهم في بناء مستقبل أفضل تسوده العدالة والمساواة والحرية.
وهو ما يضمن لهن مستقبل المشاركة الفعّالة في الحياة السياسية، وتضمين قضايا النساء في برنامج الحركة الاحتجاجية في السويداء؛ لتحقيق تغيير إيجابي دائم في المجتمع عبر التركيز على هذه القضايا ومعالجتها، التي يمكن للحراك أن يساهم في تحقيق مجتمع أكثر عدالة وإنصافاً للجميع وبالتالي تحقيق التغيير، الذي يتطلع إليه المجتمع.
أفق الحراك الشعبي
مع هذه المشاركة الكبيرة والمنوعة لفئات المجتمع في السويداء، ينبغي إيجاد ديناميكية واضحة لإحداث تغيير جوهري، فيؤكد مختصون أن رفع شعار يحمل القرار الأممي 2254 بشكلٍ فضفاض لا يفي بالغرض مع إصرار المحتجين على مطلب التغيير السياسي في سوريا، لكن طريق إنجاز ذلك ليس واضحاً بما يتجاوز التوافق اللفظي العمومي على هذا الهدف.
ولذلك يستوجب على المحتجين خلق أجسام سياسية تحمل رؤى واضحة ذات طابعٍ عملياتي على الأرض، سيما وأن المنطقة غنية بالتشكيلات السياسية، التي اضمحلت مع مرور الوقت، واللعب على عامل الإهمال الحكومي في التعاطي معها مثل الهيئة الاجتماعية للعمل الوطني، التي أُسِّست عام 2012 وتضم عدداً من الشخصيات الاجتماعية والسياسية، وكذلك تيار مواطنة أحد التيارات السورية، التي ظهرت بعد عام 2011 بالإضافة إلى تجمّع أحرار الجبل، وهو تشكيل يشارك أفراده في الحركة الاحتجاجية السلمية اليوم، إضافة إلى أعضاء من أحزاب يسارية وشيوعية.
فالحراك اليوم حسب مختصين يقف أمام مفترق لثلاثة طرق للحل، إما تطبيق القرار الدولي 2254، وهذا ما يسعى المحتجون إلى الضغط لتطبيقه، أو إدارة ذاتية وهو مشروعٌ أثبت نجاحه في إقليم شمال وشرق سوريا، أو الذهاب لتوسيع قانون الإدارة المحلية، وهو ما تطرحه حكومة دمشق مع التمسك بأسلوبها، التي حكمت البلاد فيه قبل 2011 وهذا ما يرفضه المحتجون جملة وتفصيلاً، ومن هنا تأتي أهمية تشكيل أجسام سياسية عابرة للتكتلات العائلية والفئوية.
وعلى الرغم من استبعاد سيناريو النزاع المسلح ورفضه من الفعاليات المدنية والسياسية والدينية في محافظة السويداء، إلا أنه لا تزال هناك مخاوف من مثل هذا السيناريو، خصوصاً بعد محاولة حكومة دمشق استفزاز الأهالي بإطلاق النار عليهم، لكن لذا فمن المهم بمكان الاستفادة من التجارب، التي أثبتت نجاحها سياسياً وادارياً، وفي إقليم شمال وشرق سوريا أسوة حسنة، كما يقول مراقبون.