سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

ثورة الشيخ سعيد بيراني.. ثورة وطنية تحررية.. لا حركة دينية -1ـ

عبد الوهاب بيراني-

في أحد سياقات كتابة التاريخ أو تدوينه فإنه يعتمد على تاريخ الأديان، أو تاريخ الحروب، أو تاريخ المكتشفات، أو تاريخ الأوبئة، أو تاريخ المدن والأمكنة، ولعل من أبرز التدوينات المفصلية في التاريخ هي تأريخ الثورات بجميع أشكالها، والتاريخ الكردي، أو تاريخ المنطقة الكردية، يمكننا تتبعه عبر تفاصيل ثوراته ضد الظلم والطغيان، فالثورات في القرنين الماضين تكاد تؤرخ لتاريخ المنطقة عموماً، والكردية خصوصاً، فمنذ منتصف القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين لم تتوقف العصيانات والتمردات والحركات التحررية. ولعل من أبرز الأحداث في بدايات القرن العشرين، والتي جاءت كمفصل تاريخي هام قبل الحرب العالمية الأولى، وبعدها ظهرت جمعيات كردية خاصة بين عامي 1908 -1923.
وكانت هيفي (الأمل) التي تأسست 1910 وانضم إليها المثقفون والوطنيون الكرد، وتوقف نشاط المنظمة أثناء الحرب العالمية الأولى بسبب أوضاع الحرب وصعوبة التنقل والتواصل، لكنها عادت للعمل لاحقا بالإضافة إلى جمعية آزادي (الحرية) التي تحرك قادتها للنضال والعمل من أجل تحرير كردستان وذلك بعد فشل تمرد إبراهيم باشا المللي على السلطان عبد الحميد الثاني ومحاولته إقامة إمارة كردية خاصة به، حيث أعلن نفسه أمير أمراء كردستان (ميري ميران) والتي انتهت عملياً عام 1907 بوفاته، ومن المعلوم أن حركة الباشا الكردي المللي شكلت أملاً نحو نيل الاستقلال، أما في أتون الحرب العالمية الأولى وما لاقاه الكرد والأرمن والعرب وغيرهم من صنوف القتل والتجويع والنفي وهو ما توضح في إنكار حق الكرد لاحقاً، وبإبادة الشعب الأرمني والتي تجلت بمجازر ومذابح 24 نيسان عام 1915 ومن ثم إعلان روسيا وقف الحرب من جهتها والانسحاب من جبهات القتال إثر نجاح الثورة البلشفية في القضاء على القيصر الروسي، وفضح اتفاق سايكس – بيكو الذي قسم المنطقة وكردستان.
انهيار السلطنة العثمانية
 مع بدء مرحلة الجمهورية التركية الأولى التي اعتمدت العنصر القومي والدولة القومية الفاشية رغم الادعاءات بالعلمانية منهجاً وأسلوباً لحكم البلاد والعباد، والتي لاقت المساندة والدعم من حكومة لينين السوفيتية وعدت أعمال أتاتورك بمثابة ثورة في الشرق، كما كان لنهاية الحرب العالمية الأولى نتائج متعددة وذلك بظهور كتل دولية تمثل إرادة الدول المنتصرة والدول العظمى، حيث لاح مفهوم المجتمع الدولي كقوة لها فاعليتها عالمياً، فعقدت الاتفاقيات وأبرمت المعاهدات، وبرزت حينذاك اتفاقيتا لوزان وسيفر اللتان تناولتا الشأن الكردي والقضية الكردية في أجزاء من موادها الأساسية.. وكانت لنتائج اتفاقية سيفر والدور الخياني لزعماء بعض القبائل والعشائر الكردية وأيضاً خيانة كمال أتاتورك لمبادئ “ثورته”، وخداعه للشعب الكردي، والنزعة التحررية التي سادت المنطقة، وظهور دول جديدة على الخريطة العالمية، كل ذلك كان إيذاناً لبدء وضرورة إعلان الثورة في ظروف جيوسياسية صعبة، وهكذا بدأت، واستمرت التحضيرات الأولية للثورة.
شرارة الثورة
قامت الحكومة التركية باعتقال بعض قادة جمعية آزادي الكردية مثل خالد جبران ويوسف زيا اللذين أعدما رمياً بالرصاص في مدينة بدليس في خريف 1924. عندئذ، وقع الاختيار على الشيخ سعيد ليكون رئيساً للجمعية التي عقدت مؤتمراً في تشرين الثاني 1924 في حلب حضره علي رضا، ابن الشيخ سعيد ممثلاً عن والده، إلى جانب معظم القادة الكرد في تركيا وسوريا. قرر المشاركون في المؤتمر الكردي القيام بانتفاضة شاملة لانتزاع الحقوق القومية الكردية، على أن تبدأ في يوم العيد الكردي، أي في يوم النوروز 21 آذار 1925. وقد وصل الشيخ سعيد في الخامس من شباط 1925 إلى قرية بيران الواقعة في الجبال شمال “آمد” برفقة مئة فارس، وتصادف وصوله مع وصول مفرزة تركية جاءت لاعتقال بعض الكرد، وعندما طلب الشيخ سعيد من قائد المفرزة احترام وجوده، واعتقال من يشاء بعد أن يغادر القرية، رفض الضابط التركي ذلك، فوقع صدام مسلح بين قوات المفرزة ورجال الشيخ، قتل فيها بعض الجنود الأتراك وأسر آخرون.
وعندما انتشر خبر تلك الحادثة ظن قادة الكرد بأن الشيخ أعلن الانتفاضة، فهاجموا القوات التركية وسيطر الشيخ عبد الرحيم، أخو الشيخ سعيد، على مدينة كينج التي اختيرت عاصمة مؤقتة لكردستان، وانتشرت الانتفاضة بسرعة كبيرة وسيطر المنتفضون لفترة قصيرة على أراضي واسعة في ولايات الأناضول الشرقية، وفرض الثوار الحصار على مدينة آمد التي صمدت في وجههم حتى وصول القوات التركية المعززة بالأسلحة الثقيلة، ولم يتمكن المتمردون من السيطرة على المدينة رغم اقتحامهم لها، فأمر الشيخ سعيد قواته بالتراجع. بعدها، حاصرت القوات التركية الثوار ومنعتهم من الفرار إلى العراق وسوريا وإيران. وفي أواسط نيسان 1925 اعتقل الشيخ سعيد مع عدد من قادة الانتفاضة التي خبت نارها..
الشيخ سعيد ورغم أنه شيخ الطريقة النقشبندية في باكور لم يلجأ إلى فرض سيطرته أو زعامته الدينية، إلا أن هيبته وكاريزمته القياسية وعمق وعيه ومعرفته، جعلت منه القائد المقبول لدى كل الأطراف وتوحدت الآراء في قرار قيادته، وقام قبل الثورة بجولة واسعة في أنحاء كردستان وعمل على إصلاح ذات البين بين العشائر الكردية. ونجح في تقريب وجهات النظر والصلح، وحصل على وعود بالمشاركة، لما كان يتمتع بحس وشعور وطني، وغيرة قومية ووعي وفكر عميقين، وكان يدرك أن الاتراك محتلين وأنهم أبعد ما يكونون عن الإيفاء بوعودهم للكرد، وتبين ذلك حينما حنثوا بوعودهم إثر اتفاقيات لوزان وسيفر وإعدام قادة “جمعية آزادي” الذين كانوا يدعون إلى إنهاء الحكم التركي وضرورة تحرر الولايات الكردية والشعب الكردي من ربقة السلطنة، ومن إطار الجمهورية التركية لاحقاً، وجاء اختيار جمعية آزادي لشخصية الشيخ سعيد بيراني ليس فقط لكونه رجل دين يتبع له أغلب سكان المناطق الكردية من كرد وأرمن وعرب وشركس مسلمين، ومسيحين فحسب، بل كان رجل سياسة وله علاقات مع الجمعيات الكردية والتنظيمات الأرمنية، وله مكانته البارزة كشخصية وطنية عند الكرد والعرب والترك والشركس والسريان والأرمن وغيرهم؛ هو شخصية عملت على الدوام على حقن الدماء وإرساء الصلح والسلام بين القبائل والعشائر المتنازعة، ويشهد له حمايته لأملاك الأرمن وحماية أرواحهم من المذابح، فقد أنقذ ما يربو على عشرة آلاف عائلة أرمنية، ومنع الزواج من نسائهم ولم يقبل أن يتم أسلمتهم وإنما منع على مريديه ذلك، حيث كان الكرد والأرمن وفي قرى عديدة يسكنون متجاورين ويشكلون نسيجاً اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً واحداً ولمئات السنين، وكانت له صلات وثيقة مع العائلات الوطنية كعائلة بدرخان بك وعائلة الشيخ عبيد الله النهري، ولهذا سطع نجمه في سماء كردستان لدرجة أن جواهر لال نهرو ذكره وسرد بعضاً من تفاصيل ثورته ومدى توحش الأتراك وأساليبهم في القضاء عليه وعلى ثورة الكرد في سبيل الاستقلال.
الدور التآمري للدول الإقليمية وروسيا وحكومة حزب أتاتورك
 أدرك اتاتورك بأنه ضعيف أمام مواجهة ثورة كردية مركزها الأقاليم الكردية وأنه لا يستطيع إيقافها بقوة السلاح.. فلجأ إلى المكر والخداع كما فعل حينما أسقط مقررات لوزان في اتفاق سيفر أيضاً، فلجأ إلى شراء الذمم وتجنيد الخونة والمرتزقة في صفوف الثورة، واستطاع إقناع الكثير من الكرد وزعاماتهم واستدعاهم إلى أنقرة، ودفع لهم مبالغ مالية عالية، وطلب منهم الانخراط في الثورة وتفكيكها من الداخل والعصيان وعدم تنفيذ الأوامر، بل تنفيذ تعليمات أنقرة، ووعدهم بالجاه والمال والمناصب.
أما الذين لعبوا دوراً فعالاً لإخفاق الثورة وإفشالها عن طريق تفجير مستودعات السلاح التي كانت تقع بيد الثوار وزرع الفتن، ونشر الإشاعات، وبث الذعر، وتفكيك روابط الثورة وحواملها، وعدم قيامهم بتنفيذ الأوامر الموكلة لهم، مثل: عدم تفجير جسر طرابلس وعدم قطع الخط الحديدي المار بأراضي سري كانيه؛ فقد توجهوا إلى أنقره لاستلام ثمن خيانتهم ملبين دعوة أتاتورك، هذه الخيانات بالإضافة إلى أسباب خلقتها الثورة واستخدام الجيش التركي القوة المفرطة كعادته في إخماد حركات التحرر القومية، أدت إلى فشل الثورة.
بقي الشيخ وقواته محاصرين بين قوة عسكرية عنيفة أحرقت الأخضر واليابس وجيش من العملاء المختفين خلف أقنعة الثوار، وطابور خامس يلهج بزعامة أتاتورك، وحينما أراد الانسحاب لم يكن له سوى طريق الجبال نحو “روج هلات كردستان”، فقد كان الإنكليز في العراق وكردستان يحاربون طموحات الشيخ محمود الحفيد، بل ضربوا المدن بالطائرات الحربية، وحينما أراد التواصل مع الفرنسيين وجدهم أكثر خيانة من الإنكليز، فقد ساعدوا الأتراك بنقل جنودهم عبر الأراضي التي يسيطرون عليها في سوريا لقاء كميات من الذهب، واتصل الشيخ سعيد بالروس لكنهم خذلوه ولم يردوا له أي جواب، بل زادوا من دعمهم لكمال أتاتورك و”جمهوريته” وعّدوها ثورة الشرق وبأنها حاربت وأسقطت السلطنة التي كانت تشكل أكبر تهديد لمطامع روسيا، حيث أن روسيا الاشتراكية وقفت ضد رغبات الكرد في التحرر، وعليه كان على قيادة الثورة أن تلجأ إلى جبال شرقي كردستان للاحتماء بها من وحشية الجيش التركي، لكن العملاء والجواسيس ساعدوا الجيش في إلقاء القبض عليهم، وللعلم فقد استخدمت الحكومة التركية 35 ألف جندي و12 طائرة حربية.
ودفع الأتراك بمائة وعشرة آلاف جندي إلى “آمد” لإخماد الثورة، وأشار الشيخ سعيد القائد بمحاصرة هؤلاء الجنود الجدد، ولكنه أخفق نتيجة الفساد ودور العملاء، وأصبح يائساً من استمرار ونجاح ثورته التحررية. وهكذا وقع أسيرا بيد الجيش التركي.
يتبع…