سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

تشذيب حديقة الذاكرة

في إحدى الروايات، لعلها لتشارلز ديكنز، يدور حديث عن رجل مسه الجن، فصار يدعو ربه بأن يصيبه بالنسيان، كي لا تؤرقه الذكريات، ولما استجاب الله لدعوته، وأصبح بلا ذاكرة، عاد يدعو ربه كي يعيدها إليه ثانية، لأنه شعر بالتيه من دونها.
هذه الشخصية تعكس حيرة البشر إزاء الذاكرة. هل حقاً يريد الناس أن يبقوا بكل ما في مخزون ذاكرتهم من تفاصيل حاضرة يستعيدونها وقتما يشاؤون، أم أنهم، على العكس، يرغبون في أن ينتخبوا من هذا المخزون ما يطيب لهم، ويتمنون لو أنّ النسيان طمر الذكريات المُرّة أو المحرجة، التي لو كان الأمر بيدهم لمحوها كلها؟
الذاكرة ماكرة فوق ما نتصور، إنها لا تمنح أحداً رفاهية أن ينتقي منها ما يريد، ويمحو منها ما يريد، فهي تقوم بهذه المهمة من تلقاء نفسها، لكن على طريقتها الخاصة، تحتفظ بما تحتفظ وتمحو ما تمحو، بصرف النظر عن رغبة صاحب هذه الذاكرة.
وقف الكاتب جيروم. ك.جيروم في كتابه الجميل الموسوم «أفكار تافهة لرجل كسول» عند «انتقائية» الذاكرة هذه، ضمن وقفاته الشائقة في هذا الكتاب، الذي لا يخدعنكم عنوانه، فما يحويه ليست أفكاراً تافهة، والمتحدث فيه ليس رجلاً كسولاً، وإنما على النقيض تماماً، فما يتناوله من أفكار عميقة جداً، حتى لو بدت تلك الأفكار عادية ومألوفة، لكن الكاتب الموهوب هو من يضفي العمق على الفكرة التي يتناولها مهما كانت بسيطة، وبمثل هذا التناول أظهر كروم أنه صاحب ذهن حي، يقظ، لا يأتيه الكسل، لا من باطنه ولا من ظاهره.
عن نفسه يتحدث جيروم ما نريد أن نصفه بـ «الحكايات الناقصة»، وهي ناقصة بسبب مكر الذاكرة إياه، ويعطي مثلاً أنه يتذكر أنه في طفولته وقع في حفرة عميقة جداً، لكنه عاجز عن تذكّر كيف خرج، أو كيف أُخرِج منها، وإلا ما كان قد عاش وكتب ما كتب.
ما تمناه جيروم ليس دفن الماضي، ماضينا كأفراد يعني، فذلك محال وغير مطلوب، فلو تمزقت أوتار الذاكرة كلها «تصبح موسيقى الحياة بكماء»، وإنما أراد اجتثاث الحشائش السامة من الذاكرة والإبقاء على الأزهار وحدها، «إننا لا نود أن ندفن كل الأشباح»، يقول جيروم «وإنما فقط تلك الشرسة، الوحشية التي نهرب منها». لكن، ومرة أخرى، نقول إن الذاكرة ماكرة، فهي توقظ ما تختار من أشباح، إنها «كالبيت المسكون حوائطه ترجع دوماً أصداء أقدام لا تُرى من خلال نوافذ الباب المكسورة»، ولكن وعلى سبيل الاستدراك، فإن جيروم يحمد الله لأننا لا نرى المستقبل.
وكالات