سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

تراجع “التنوّع الحيوي” في إقليم شمال وشرق سوريا

الحسكة/ محمد حمود ـ

تأتي الأغذية الوفيرة التي نتناولها والهواء النقي الذي نتنفّسه والماء العذب الذي نشربه والطقس الذي يجعل كوكبنا صالحاً للسكن جميعها من الطبيعة؛ فيما يُعدُّ التنوع الحيوي (البيولوجي) الحارسَ الأمين لتوازن هذه الطبيعة وديمومتها؛ وقد أثّرت العديد من العوامل على تراجع هذا التنوع في إقليم شمال وشرق سوريا.
التنوع الحيوي أو البيولوجي – بحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة – هو تنوع الحياة على الأرض، بما في ذلك النباتات والحيوانات الموجودة على الكوكب، والنظم الأيكولوجية التي تأوي الأنواع المختلفة منها، والتنوع الجيني فيما بينها، وهو شبكة معقدة ومترابطة، يلعب فيها كل عضو دوراً مهماً، ويساهم بطرق قد لا تكون مرئية للعين في استمرار الحياة.
التنوع الحيوي في شمال وشرق سوريا
تقع مناطق شمال وشرق سوريا في منطقة ذات تنوع حيوي وبيئي نظراً لتنوع مناخها والتضاريس والتكوينات الجيولوجية الموجودة فيها، حيث تشكل جزءاً من حوض الفرات الممتد من الشمال ونحو الجنوب الشرقي، ويتميز مناخها عموماً بصيف حار وشتاء بارد – رطب وعادةً ما يصل معدل الأمطار إلى ما يقارب الـ 250 ملم / سنوياً؛ وذلك قبل أعوام قليلة فائتة.
يتميز الغطاء النباتي البري في شمال وشرق سوريا بحاجته للتكيّف لتحمّل الجفاف وارتفاع الحرارة ومقاومة كثرة التبخر وشدة الرياح، وتحمّل الاحتكاك الشديد بحبيبات الرمل مثل: النباتات الحولية والمعمرة وغيرهما، باستثناء بعض الأنواع المنتشرة بالقرب من مصادر المياه حيث تكون دائمة الخُضرة وبالتالي دائمة المطالب المائية على مدار السنة.
كما تعتبر مناطق شمال شرق سوريا غنية بتنوعها البيئي، حيث يتميز غطاؤها النباتي بتنوعه؛ فيشمل الصحاري والسهول والجبال، وتعتبر الزراعة من أهم النشاطات الاقتصادية فيها، وتشمل زراعة الحبوب والفواكه والخضروات والقطن، حيث توجد محاصيل موسمية مثل القمح والشعير والفول السوداني والذرة، علاوةً على ذلك فهي تتصل بالصحراء السورية جنوب دير الزور.
أما بالنسبة للثروة الحيوانية؛ فتشتهر هذه المناطق بكثرة المراعي واهتمام العديد من السكان في الأرياف بتربية المواشي، وباعتبار تلك المناطق ذات بيئة جافة وقاسية؛ نلاحظ وجود العديد من الحيوانات المُتكيفة مع الظروف الصعبة، مثل القوارض والحشرات، إضافة لبعض أنواع الطيور والحيوانات البرية والأسماك النهرية.
وبحسب كتاب “التكون التاريخي الحديث للجزيرة السوريّة”، الصادر عن المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسات؛ فإن إقليم شمال وشرق سوريا يعتبر من أشهر الأقاليم النهرية القديمة التي تقع جغرافياً بين نهري دجلة والفرات.
الأسباب والمظاهر 
بات وضع التنوع الحيوي في شمال وشرق سوريا، في السنوات الأخيرة، حرجاً؛ بسبب الحرب المستمرة منذ ما يزيد على عقد من الزمن؛ ناهيك عن التغير المناخي الذي أثر على العالم أجمع؛ وبالتالي فإن نصيب المنطقة لم يكن أقل من غيرها؛ نتيجة وفرة الوقود الأحفوري فيها (النفط والغاز على وجه الخصوص)، والذي بحسب تقرير للأمم المتحدة يعدُّ أكبر عامل للتغيّر المناخي، بسبب الاحتراق الذي يطلق الغازات الدفيئة التي تشكل غطاءً يلتف حول الكرة الأرضية، مما يؤدي إلى حبس حرارة الشمس ورفع درجات الحرارة.
يتجلى التغيّر الحيوي في شمال وشرق سوريا عبر الكثير من مظاهر التدهور واندثار بعض النظم البيئية؛ حيث أثرت الحرب على البنية التحتية والزراعية؛ مما أدى إلى تلوث المياه والتربة والهواء، وانعكاس ذلك على الحيوانات والنباتات والأحياء المائية.
علاوةً على ذلك؛ فإن ازدياد معدلات التصحر بسبب الرعي الجائر والتعديات البشرية، وتناقص الأمطار بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، كلها عوامل أثرت على الإنتاج الزراعي وخاصةً القمح الذي انخفض إلى ربع الكمية الاعتيادية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، فيما كان يصل سابقاً إلى مليوني طن.
ظهر تراجع التنوع الحيوي أيضاً عبر تضرر الغابات الصناعية والطبيعية في مداخل مدن الحسكة والرقة ودير الزور؛ وذلك نتيجة الاحتطاب الجائر من قبل السكان في سنين الحرب بغية البيع أو التدفئة، أو بسبب الحرائق كما حدث عام 2019. كل تلك الأسباب أدت لاختفاء العديد من الغابات وتضرر الغطاء النباتي ككل، وسط إحصاءات تشير إلى أن ما يتم تدميره قد يحتاج إلى عشرات الأعوام لتدارك جزء منه.
تضرر الغطاء النباتي وتراجع التنوع الحيوي، أثر على الحيوانات التي كانت تعيش في المناطق الغابية، والتي تعد بيئة مثالية للعديد منها؛ مثل الذئاب والثعالب والغربان والصقور، التي انقرض بعض منها ويهدد الانقراض بعضها الآخر. ومن الأمثلة: انقراض الأسد والفهد الآسيويين، والضبع السوري، ناهيك عن تناقص ملحوظ في عدد المواشي؛ بسبب قلة المراعي وغلاء الأعلاف وانتشار الأمراض، كما تناقصت أعداد الطيور المهاجرة؛ بسبب الصيد الجائر، ولم تكن الأحياء المائية أقل ضرراً.
الأزمة السوريّة والهجمات على مناطق شمال وشرق سوريا أثرت بشكلٍ كبير على مياه الأنهار (الفرات والخابور وجغجغ) والبحيرات الطبيعية والصناعية في المنطقة، إضافة إلى النقص الحاد في المياه الجوفية؛ بسبب الحفر العشوائي؛ قبل إصدار قرار يمنع الحفر أواخر العام الفائت (2022). كل ذلك أدى إلى تلوث وانخفاض منسوب المياه بشكلٍ ملحوظ؛ ما ترك آثاراً كارثية على باقي الكائنات الحية؛ وبالتالي تسجيل تراجع مخيف في التنوع الحيوي.
كما تأثرت الحوائج النهرية (الغابات النهرية) التي تتواجد داخل نهر الفرات في محافظة دير الزور، ويصل عددها إلى (77) حويجة وتبلغ مساحتها (33470) دونم، وقد كانت غنية بعدد كبير من الأحياء؛ نتيجة تأقلم البيئة النباتية للنهر وتطورها معه. إلا أن تغيّر المناخ، وحالة الحرب، وقلة الغذاء، وهجرة أهالي المدينة، أدّت إلى هجرة ونفوق الكثير من الطيور والحيوانات.
في السياق ذاته؛ تأثرت المحميات الطبيعية في شمال وشرق سوريا، حيث تم إبادة غزال الرمل والمها العربية في محميات جبل كزوان “عبد العزيز” (غرب الحسكة) ومحميات كرين وعايد (الرقة)، كما تعرضت الحيوانات المفترسة في محمية جبل كزوان، لاسيما الذئاب الرمادية والضباع المخططة والثعالب، للصيد بهدف التجارة. وشمل الضرر التحطيب الجائر للأشجار، بما فيها الأنواع المحمية كالبطم الأطلسي وبطم الكونجوك في محميات جبل عبد العزيز وجبل أبو رجمين (جنوب دير الزور).
ومن مظاهر تراجع التنوع الحيوي انقراض الطرائد (الأرانب البرية والجرابيع وغيرها) التي تمثل الغذاء الرئيس للحيوانات اللاحمة في البرية كالذئاب والثعالب؛ الأمر الذي دفع هذه الحيوانات المفترسة للبحث عن المأكل الذي تفتقده في البادية؛ ما زاد من ظاهرة مهاجمة هذه الضواري للأماكن السكنية وقطعان الأغنام الموجودة في الأرياف.
سُبُل الحد من التراجع الحيوي
تقول ماريبانغيستو التي مثلت البنك الدولي في المؤتمر العالمي لحفظ الطبيعة: “لا يمكننا العمل على معالجة التنوع البيولوجي دون النظر أيضاً في الأخطار التي تهدد الطبيعة وسبل كسب العيش للناس من جراء تغيّر المناخ، لأن فقدان الطبيعة وتغيّر المناخ وجهان لعملة واحدة. إن فقدان التنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية يمثل مشكلة إنمائية كثيراً ما تؤثر في البلدان الأشدّ فقراً أكثر من غيرها”.
وتتابع بانغيستو: “إن الطبيعة ليست في حاجة إلينا، لكننا من يحتاج إليها، بيد أن الخدمات التي تقدمها الطبيعة غالباً ما تكون مقومة بأقل من قيمتها وغير محسوبة في تخطيط عملية التنمية”
ومما سبق؛ تجدر الإشارة إلى أن الخطر الذي يمثله تراجع التنوع الحيوي في شمال وشرق سوريا يتطلب منا مزيداً من الجهود لمعالجة الدوافع المباشرة وغير المباشرة لفقدان التنوع البيولوجي؛ ويشمل ذلك اتباع نُهُج متكاملة وشاملة للتخطيط والتنفيذ، وزيادة التفاعل بين الجهات المعنية والقطاعات الاقتصادية والمجتمع؛ ووضع أهداف وغايات جيدة التصميم مصاغة بلغة واضحة وبسيطة، مع مؤشرات قابلة للقياس، ورصد أكثر فعالية وشفافية، وموارد كافية؛ وتقليل الفترات الزمنية في تخطيط وتنفيذ استراتيجيات التنوع البيولوجي وخطط العمل المرتبطة به.
في الصدد؛ أكدت المفوضية الأوروبية، من جانبها، أن فقدان التنوع البيولوجي يعد أمرا خطيراً وينتج عن هذا الفقدان العديد من المشاكل؛ كالمناخية المتمثلة بتدمير النظم البيئية وتسريع ظاهرة الاحتباس الحراري، والصحية كتخفيض جودة الهواء والماء والتربة على حدٍ سواء، إضافة للضرر في الصناعة والاقتصاد والتجارة؛ لأن الطبيعة أكبر رأس مال للبلدان، ناهيك عن تهديد الأمن الغذائي وفقدان الموارد الطبيعية؛ مما يزيد من الفقر حول العالم.
من الضروري، أيضاً، الإدراك أن الحلول القائمة على الطبيعة لديها القدرة على انتشال مليار شخص من الفقر، وخلق أكثر من 70 مليون وظيفة، وإضافة 2.3 تريليون دولار في النمو الإنتاجي للاقتصاد العالمي.
الأمر لا يتعلق فقط بفقدان الحياة البرية بل عندما نفقد التنوع البيولوجي، سنفقد ”خدمات النظام البيئي“. فنحن بذلك ندمر أسس الاقتصاد وسبل العيش والأمن الغذائي والصحة وجودة الحياة على الأرض، والتي تقدمها الطبيعة مجاناً.
وبحسب الاتفاقية المتعلقة بالتنوع البيولوجي؛ فقد طُرحت مجموعة حلول لوقف تراجع التنوع الحيوي في شمال وشرق سوريا، ولأن الأنشطة البشرية، بحسب اليونسكو، تهدد بمزيد من انقراض الأجناس على مستوى العالم أكثر من أي وقت مضى، فإن زيادة الوعي بأهمية التنوع الحيوي ودوره في الحفاظ على البيئة والاستدامة هو أمر ضروري؛ ويجب التركيز عليه بالدرجة الأولى، بما في ذلك تعزيز ثقافة الحفاظ على جميع الموارد الطبيعية سواء بين المجتمعات المحلية أو السلطات.
ورغم وضع اليونسكو عام 2019 هدفاً جديداً متمثلاً بجعل التعليم البيئي عنصراً أساسياً في جميع المناهج الدراسية بحلول عام 2025؛ إلا أن هذا الهدف لم يُفعّل في شمال وشرق سوريا، بسبب ظروف البلاد في الوضع الراهن.
خُلاصة القول؛ علينا التفكير بحلول إضافية، كتَبَنِّي خطط بيئية شاملة، وتشجيع الاستثمارات البيئية المستدامة، وحث المزارعين على استخدام تقنيات زراعية مستدامة، والحفاظ على التنوع الزراعي، دون إهمال المياه، والتشديد على منع الصيد الجائر.
هذه الجهود لن تتكلل بالنجاح سوى عبر التنسيق بين الحكومات والمنظمات الدولية؛ لتطوير برامج تدريب المختصين، وتكثيف استخدام التكنولوجيا، واستجلاب تمويل مشروعات تحسين جودة البيئة؛ للحفاظ على ما تبقّى من النظام الحيوي في شمال وشرق سوريا.