سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

تحدي الثقافة

أحمد ديبو_

كانت ثورة روج آفا في شمال وشرق سوريا، مناسبة للبدء بعقد مصالحة تاريخية بين الثقافة والسياسة. تحدّث الجميع عن المصالحة الوطنية التي لا زالت تتحقق بين الشعوب على عموم أراضي شمال وشرق سوريا.
ولم ينتبه أحد إلى أن علامة المصالحة لا تقتصر على شعوب هذه المنطقة، بل عليها كي تترسّخ أن تعبرها وتتجاوزها لتشمل عموم سوريا، وهذه مسؤولية الثقافة أولاً وأساساً.
علاقة الثقافة بالسياسة كانت منذ الانتفاضة محاولة لزرع الثقافة الإصلاحية، والتحرر من زبائنية النظام السياسي الموروث من نظام الاستبداد، ودعوة لرفض الطائفية، والأثنية السياسية أو تجاوزها.
حافظ المكوّن الثقافي السوري “خارج اتحاد الكتّاب العرب”، على هامش من استقلاله عن الطبيعة الاستبدادية للنظامين السياسي والاجتماعي في عموم سوريا، وخاضت قطاعات واسعة من المثقفين معارك دائمة من أجل علمنة ودمقرطة السياسة والمجتمع.
لا أريد أن أدخل الآن في طبيعة تلك المعارك، ولا في استراتيجيات قواها السياسية، ولا في انهيار الخطاب العلماني والديمقراطي خلال أعوام الحرب.
ما أريد الإشارة اليه أن الحياة الثقافية السوريّة في تلويناتها المختلفة، كانت قادرة على التأثير الفاعل في مبنى المجتمع السوري، انطلاقاً من قدرتها على تجديد التيارات النهضوية العلمانية من جهة، وانفصالها الجذري عن زواريب السياسة السلطوية من جهة ثانية، وهذا تحقق بشكلٍ لا بأس فيه في شمال وشرق سوريا. لذا كان الالتزام السياسي في الثقافة هنا يقع خارج الأطر التي تُصنع فيها السلطة السائدة.
فبعد هيمنة الخطاب الطائفي الذي اجتاح التنظيمات الإسلاموية المختلفة، مع القوى الطائفية الداعمة للنظام، أثبتت الأكثرية الساحقة من مثقفي “روج آفا” انفلاتاً من الالتزام السياسي الضيّق، وقدمت النقد الأساسي لتجربة الإدارة الذاتية، وهذا الأمر رسّخ حالة صحية للمضي في نجاح مسيرة التجربة.
السؤال الكبير الذي يُطرح اليوم، من أغلب المثقفين المتنورين الذين عانوا من الإقصاء والسجن في زمن الاستبداد؛ اليوم يرفعون شعار المصالحة بين الثقافة والسياسة.
ثورة “روج آفا” التي صنعت أرضاً للحرية، بدت كأنها قادرة على إحداث منعطف جديد في العلاقات بين الثقافة والسياسة. ثورة صنعت أرضاً للحرية، بدت كأنها قادرة على إحداث منعطف جديد في العلاقات بين الثقافي والسياسي.
المثقفون وعموم شرائح المجتمع الذين اندفعوا إلى فضاء الحرية أثناء الثورة، جسّدوا علاقة كادت أن تُمحى بين الأحلام المهدورة والسياسة، التي كانت قد استباحتها الأجهزة الأمنية للنظام الاستبدادي في زمن الأسدين.
غير أنه وجب التفريق بين الرغبات والواقع السياسي الملموس، فعلى الرغم من ضخامة الحشود وقدرتها على إحداث انقلاب سياسي كبير في المعادلة السورية، وأن استطاعت هذه الثورة من إجبار قوات الأسد، والتنظيمات الإرهابية على الاندحار من شمال وشرق سوريا، باستثناء بعض المناطق التي بقيت تحت سيطرة المرتزقة المدعومين من النظام التركي، فإن واقع الحياة السياسية الموروثة عن النظام الاستبدادي لا زالت تفرض أمراضها بقوة الأمر الواقع، وستحتاج الى عمل مُضني للتخلّص من آثارها.
الحرب السوريّة تقريباً صارت وراءنا رغم كل ما يقال ويشاع، أي أن نقطة الابتزاز الأساسية التي تملكها القوى الطائفية سقطت أو تكاد، ومع سقوط هذا الابتزاز لم يعد لدى المثقفين من عذر لاستكانتهم من لعب دورهم كضمير أخلاقي ـ سياسي مبرر.
إن ما هو ملقى على عاتق المثقفين اليوم من مهام كبرى، لأن الأوطان أكثر أهمية من أن يُترك أمر صنعها للسياسيين المحترفين وحدهم، فالمهمة تحتاج الى “كتلة تاريخية” تستطيع حمل العبء.
إن “اللحظة التاريخية” التي تمخّض عنها ولادة تجربة “الإدارة الذاتية”، لا يمكن أن تنجح وتكتمل دون ولادة نخبة ثقافية عضوية قادرة على تحمّل وزر الأيديولوجيات القديمة، المسقوفة بمتعاليات عفا عليها الزمن وتقطّع معها.
فكرة التعايش يجب أن تُستبدل بفكرة المواطنة والمساواة المدنية. وهذا لن يتحقق إلا عبر مشروع علماني/ فكري وسياسي، يعيد رسم معنى الوطن ويحرره من الوظيفة التسلطية الاستبدادية للنظام الأسدي، ومن مستتبعات التقاليد والأعراف المنتشرة في المجتمعات التي عاشت قروناً وفق أوالات ما دون الدولة.
تأسيساً على ذلك، فإن الدور الثقافي والإعلامي للإدارة الذاتية سوف يصبح أساسياً، كما أن الدور الحداثي للخطاب الثقافي والسياسي يصير اليوم حاجة نهضوية؛ من أجل إزاحة كابوس “العسكرتاريا” من جهة، واستعادة للقوى الثقافية لقدرتها في الدفاع عن حقوق الإنسان في الوطن السوري عموماً، هاتان المهمتان تتعارضان مع بعض السياسيين، أو على الأقل لا تتقاطعان معها. إنهما جزء من مشروع ثقافي ثوري لم يعد من الممكن تأجيل الشروع في دعمه وتوحيد قواه.
هنا تقع المهمة الحقيقية على الثقافة والمثقفين. لقد انتهت مرحلة المقاومة الاعتراضية الشجاعة، التي كانت ثورة روج آفا ثمرتها الكبرى، وبدأت مهمة أكثر خطورة: هي تأسيس تجربة سياسية ناجحة في سياق إعادة بناء مناخ ثقافي نهضوي.
المهمة صعبة وتحتاج إلى استعادة ثقة المثقفين بالثقافة أولاً، واستعدادهم للانخراط في النسيج الاجتماعي، وإحداث تغيير جذري لمفهوم العمل العام، وإعطاء العمل السياسي الديمقراطي الطويل النفس معناه؛ في وصفه خدمة عامة لا وجاهة، ولا إرثاً، ولا توظيفاً لرؤوس الأموال فيه حيث ستقوم بإفساده من الداخل.
إذا كانت ثمرة الثورة هي طرح هذا النوع من الأسئلة الجذرية، فهذا يعني أن الثورة تحمل إمكان تحقيق إنجازات كبرى، شرط أن تكون الثقافة الثورية في مستوى التحدي.