سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

تاريخ الكُرد المُغيّب والمدمّر في حلب!

تقرير/ عبدالعزيز حمدوش –
أقام منتدى حلب الثقافي في حي الشيخ مقصود يوم الجمعة 27/6/2020م، محاضرة بعنوان “تاريخ الكرد في حلب” حضرها عشرات المثقفين والمهتمين بالتاريخ، بهدف التعريف بتاريخ الوجود الكرديّ في المدينة عبر التاريخ.
ألقى المحاضرة الدكتور فرهاد نعسان فتحدث عن تاريخ بناء المدينة، وقال “إنّ حلب المدينة الأقدم في التاريخ، ولا يُعرف أول من بناها لكن يُعتقد إنَّ أحد ملوك نينوى قد أمر ببنائها بيد حلب بن مهر العمليقي حوالي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، وشهدت أول خراب لها في العهد الأكاديّ 2450 ق م، ثم شهدت توسعاً في العهد الأموريّ فكانت عاصمة مملكة يمحاض ومن ملوكها حمورابي”. وأضاف نعسان إنّ حلب “تعرضت لتهديم كبير على يد الحثيين، ثم استسلمت بلا مقاومة للملك الآشوري شلمنصر 853 ق.م، ثم احتلها الفرس، ثم احتلها المقدونيون وبقيت حلب حية لم تمت”.
من المصاهرة إلى الإمارة
 
وحول الوجود الكرديّ في حلب ذكر نعسان أنّ وجود أسلاف الكرد قديم في مدينة حلب، وأما وجودهم باسمهم الصريح “الكرد” فيعود إلى زمن الحمدانيين “وفي هذه الفترة تصاهر الكرد مع مدينة حلب لأول مرة، إذ أرسل أمير الدولة الدوستكيّة الكرديّة أبو علي حسن جماعة من أشراف بلاده إلى مدينة حلب عند أميرها أبي الفضائل بن سعد الدولة بن سيف الدولة الحمداني ليخطبوا أخته الأميرة ست الناس”.
عام 1124م حشد الصليبيون قواهم وتحالفوا مع بعض (أمراء العرب) وسعوا إلى احتلال حلب وحاصروها طويلاً وكانت حاكم المدينة الأمير الأرتقي تمرتاش بن ايلغازي الذي هرب مع قدوم الصليبين، فتولى قاضيها أبو الفضل يحيى بن الخشّاب الكرديّ تنظيم أمور الدفاع عن حلب وصمدت في وجه الصليبيين، ومن أعمال القاضي الخشاب بناء مئذنة الجامع الكبير بحلب. وأضاف نعسان “تحولت حلب إلى ورشة بناء كبرى، حيث عمروا الأسوار والأبراج وكل الأبواب التي نعرفها اليوم، وعمروا السوقين اللذين تم إنشاؤهما شرق الجامع الكبير، نقل إلى أحدهما العاملون بالحرير وإلى الآخر النحّاسون”.
ومن الشخصيات الكرديّة التي تولت حلب الأميرة ضيفة خاتون بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب حلب: (1185-1242م) أصبحت صاحبة التصرف في حلب وسلطانة بالوكالة بعد وفاة ابنها الملك العزيز “محمد” وولاية حفيدها الناصر (وهو طفل) وتصرفت تصرف السلاطين في حكم حلب لمدة ست سنوات. وعاشت حلب مرحلة ازدهار في عهد الأميرة ضيفة ومن مآثرها تخفيض الضرائب وإيثارها الفقراء فكانت تحمل إليهم الصدقات الكثيرة، ومدّت قساطل المياه وبنت المدارس والخانقاهات (وتعني الفنادق)، ومما بنته مدرسة الفردوس ووقفت عليها أوقافاً عظيمة ورتبت فيها القرّاء والفقهاء والصوفيّة. كما حصّنت حلب فكانت منيعة في وجه المغول والسلاجقة والصليبين ومملكة خوارز مشاهیان. كما برز دور الكرد مجدداً في حلب في القرن الثامن عشر في الفترة الجنبلاطية وما بعدها في القرنين الأخيرين حتى اليوم.
يذكر العالم الروسيّ مينورسكي وهو أحد كبار المستشرقين العالميين في كتابه الثمين والقيم “الأكراد ملاحظات وانطباعات” والذي كتبه عام 1915م: “في ولاية حلب من مجموع 125000 نسمة في هذه الولاية هناك للأكراد 1000 – ألف قرية”، وهو مجموع قرى الكرد في: عفرين، إعزاز، مناطق منبج والباب قرى جبل الأكراد في الساحل السوريّ، وجبل الزاوية بالإضافة لقرى لواء إسكندرون السليب والقرى التي تقع شمال الحدود الدوليّة مع الجانب التركيّ.
وفي حقبة الاحتلال الفرنسيّ ساهم الكرد في مقاومته وتواصلوا مع الثوار في مناطق إدلب والساحل ودمشق.
وفي ختام حديثه أشار إلى أن في القرن العشرين سكن الكرد بكثافة في مختلف أحياء حلب، ففي مطلع القرن العشرين سكنوا في حي الأكراد آغيول، وحي النيرب وحي تلعرن شرق حلب أكثر سكانها من الكرد، واعتباراً من عام 1935م تحوّل الكرد للسكن في الأحياء الناشئة حديثاً مثل الأشرفية والشيخ مقصود والسريان وأحياء أخرى.
الكُرد من بناة حلب
ونقل الدكتور فرهاد عن “المؤرخ ابن شداد الذي عاصر الأيوبيين في القرن الثالث عشر وتحدث في كتابه “الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة” ذكره لدور البناء للكرد في حلب من حيث بناء المدارس والحمامات والمساجد وغيرها من المرافق الاجتماعيّة من الزمن الأيوبيّ وقبله وبعده، وأما حي الأكراد في حلب فهو من الأحياء القديمة جداً في حلب، ذكرهُ العديد من المؤرخين القدماء في حلب من القرن الثاني عشر ميلادي وكان للحي بابٌ يغلق ليلاً.
وذكر د. فرهاد مساهمة الكرد في بناء المساجد والمدارس وأقنية المياه: “أما الجوامع والمساجد فكان للكرد حصة كبيرة في بنائها، ففي القرن العاشر الميلادي لم يكن في حلب سوى عدد من المساجد لا تتعدى الأربعة ومسجداً منها في حي الظاهريّة وهو الحي الذي بناه الملك الكرديّ الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين الأيوبي لجيشه من الكرد والتركمان حين فتحه مدينة حلب”. ويقول المؤرخ ابن العديم وهو أحد معاصري الفترة الأيوبية في حلب: أنّه كان لأهل حلب صهاريج في دورهم، يخزنون الماء منها، ويبردونه فيها ماعدا بعض الأماكن المرتفعة في حلب كالعقبة وقلعة الشريف فإنّ صهاريجهم من المطر، وكانت قناة حلب، أو قناة الملك غازي تأتي من حيلان وهي قرية شمال حلب وتبعد 12 كم.
بنى أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين الأيوبي المتوفى في العام 1168 ميلادية ثلاث مدارس في حلب، كانت بمقام جامعة وعرفت باسم الأسديّة.
القاضي أحمد أفندي بن طه زادة (1698- 1763) الشخصية الغامضة في تاريخ الكرد وتاريخ حلب والذي اشترط أن يكون طلاب المدرسة ومعلميها من الكرد فقط، وفي سنة (1751م) عاد من القدس إلى وطنه حلب فشرع في بناء مدرسته في محلة الجلوم، زقاق الجلبي، شرقي جامع البهرمية، وسماها “الأحمدية”، ووقف فيها ما اقتناه من الكتب النفيسة والآلات النادرة، وبلغت كتبه ثلاثة آلاف مجلد، منها عدة مجلدات بخط يده.
ومما جاء في المحاضرة أيضاً أن أول مطبعة كرديّة جلبها حزني موكرياني من ألمانيا إلى حي الأكراد في حلب والمطبعة محفوظة إلى اليوم في متحف راوندوز، ويقول نعسان “في عام 1915م، وعمره 22 عاماً سافر حسين حزني إلى ألمانيا حيث اشترى من برلين آلة طباعةٍ عربيةٍ ونقلها إلى حلب، حيث قام بنفسه بصنع قوالب وسكٍّ للأحرف الكردية غير الموجودة في العربية (پ، ڤ، ژ، گ، چـ) لتتوافق مع الأبجدية الكردية المكتوبة بالأحرف العربيّة، وبدأ بطباعة الكتب والصحف والمجلات الكرديّة”.
آثار تتعدى البناء
 
ومن مظاهر الوجود الكرديّ في حلب أنّ اللهجة الحلبيّة تحتوي عدداً كبيراً من الكلمات الكرديّة. كم نقش، قوطرش، أله رشي، بربشت، جبان، كوراني، البيرقدار، الخزندار، المير آلاي، السباهي، الكيخيا، اللاوندي، السكرتون ويعني خزانة الملابس، الشايدان أي إبريق الشاي، الشمعدان أي حمالة الشموع. ومن العوائل الكرديّة: كوراني، البيرقدار، الخزندار، المير آلاي، السباهي، الكيخيا –اللاوندي، برمدا.
وفي نهاية المحاضرة جرى عرضُ مجموعة من الصور للآثار العمرانيّة التي بناها الكرد في مدينة حلب، وتضمنت صوراً للتخريب المتعمد الذي طالها خلال الأزمة السوريّة، ومن جملة ذلك اختفاء منبر صلاح الدين الأيوبي وتدمير مئذنة المسجد الأمويّ.
وقال الدكتور فرهاد نعسان: كان الهدف من المحاضرة التعريف بالتاريخ المغيّب والمدمّر للكرد في حلب، ومساهمتهم عبر مراحل تاريخيّة في بناء المدينة، وكذلك لنؤكد طبيعةَ التعايش السلميّ في حلب، التي كانت على الدوام حاضنة لعدةِ مكوّنات، وتلك ميزتها التي تتقدم على سواها من المدن، وبوسع العربيّ والأرمنيّ والتركمانيّ أن يتحدث عن تاريخ وجوده في المدينة.