على أكوام منزلٍ مدمّر، ما يزال شاهداً على الدمار الذي حلّ بمدينته المنكوبة، يجلس خميس، ويعزف لحناً من تراث الرقة بتسعة أصابع.
ذلك اللحن، كغيره من الألحان؛ لم يتمكّن خميس طعمة، من عزفه لنفسه ولأصدقائه على الملأ، منذ أن عصفت الحرب ببلده، حتى ألقت مدينته عن نفسها عباءة عاصمة لداعش فكانت الدندنة ملاذه الوحيد.
يقول بعدما أنهى عزف اللحن، بلهجة أهل مدينته: “الرقة ما تستاهل يلي صار بيها”، ويبدو من نبرة صوته أن ذاكرته في تلك اللحظة استحضرت مشاهداً مؤلمة من الحرب، فاغرورقت عيناه بالدموع، محاولاً مسحها بمنديلٍ ورقي كان يشدّه بين كفي يديه.
الرقة التي كانت يوماً ما؛ تحتضن مكتبة ضخمة تضمُّ أكثر من ستين ألف كتاب، وأكثر من 20 مركزاً ثقافياً، وخرج من رحمها العشرات من الأدباء والشعراء والكتّاب والرسامين والنحّاتين والعازفين، أجهضت مع بدء مخاض الحرب السوريّة كل أشكال الفن.
خرجت المدينة في آذار/ مارس، عام 2013؛ من قبضة حكومة دمشق، وتتالت العديد من المرتزقة في السيطرة عليها، بدءاً من ما يُسمى بـ”الجيش الحرّ”، ومن ثمّ هيئة تحرير الشام، وأخيراً “داعش”.
ومع توجّهاتٍ مختلفة جاءت بها تلك القِوى، حُرّم على أهل الرقة الفن باختلاف أنواعه، ودُمّرت حتى تماثيلها الأثرية على اعتبار أنها تعدّ “صنماً وشركاً بالله”.
كان “طعمة”، حينها؛ يحوي “صنماً محرَّماً” في منزله، وهو عوده الذي لم يستطع التخلي عنه رغم خطره على حياته، خبَّأه ضمن خزانة ملابس ولفّه كالرضيع المولود في الشتاء، بطبقة سميكة من الملابس والأغطية، خوفاً من رؤيته.
كان من الوارد جداً أن يُصلَب أو يُقطع رأسه، ويُعلّق في ساحة أحد الدوّارات مع ورقة تعلّق على صدره بشريطٍ لاصق أو ربما بدبوس ويكتب عليها “كافر”، لو علم الذين خاضوا معارك حامية الوطيس للقضاء على الغناء والموسيقى؛ أن أصابعه تداعب أوتار عوده أو حباله الصوتية متمرِّسة على الغناء.
لا يتردّد “طعمة”؛ للحظة عن الإجابة عن سبب كل تلك المخاطرة، فيقول: “كان قطعة مني، لم أستطع بيعه أو تحطيمه”.
حنين للتراث
وعند الحديث عن الفن والفنانين في الرقة، لا ينفكّ “طعمة”؛ عن المقارنة بين سنوات ما قبل الحرب وبعدها، فعلى أنغام الربابة والأغاني التقليدية والمواويل من تراث الرقة، كان هو وأصدقاؤه يقضون ليلات السمر، ويتبادلون الحديث عن الألحان وكلمات الأغاني.
يتذكّر “طعمة”، آخر جلسة قضاها برفقة فنانين، كان ذلك قبل عدّة أيام من سيطرة مرتزقة “الجيش الحر” على الرقة: “منذ ذلك الحين بدأ خوفنا على أنفسنا، كان من السهل اتهامك بأنك شبيح أو موالٍ للنظام”.
لكن الحنين إلى الربابة والأغاني من تراث شرق الفرات، كان يدفعه هو وفنانون آخرون للمخاطرة أحياناً؛ بالغناء والعزف سراً وبصوتٍ منخفض، مع الحرص على تواجد البعض منهم ببداية الشوارع لمراقبة دوريات الجهة العسكرية المسيطرة آنذاك.
يقول: “مرّينا بظروف ما نقدر نرفع صوتنا، ما نقدر ندندن بينا وبين نفسنا”.
وحدث أحياناً؛ أن جلس برفقة أطفاله وغنّى على أنغام دقّه على حافظة المياه، دون الجرأة على إخراج عوده والعزف عليه، خوفاً من “بطش المتطرِّفين”.
كان “طعمة”؛ ربما أكثر من غيره، يأمل أن تضع الحرب أوزارها باكراً، ليشارك في إعادة بناء الحركة الفنية في مدينته، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.