سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

انتخاب بلون الاستفتاء

شورش درويش (كاتب)-

في واحدة من المصطلحات التي حاولت التعبير عن طريقة الحكم في سوريا ودول عربيّة أخرى جاء مصطلح الأنظمة “الجُملكيّة” (الجمهوريّة الملكيّة) في معرض وصف الأنظمة الجمهورية التي تتوارث الحكم بمنطق الحكومات الملكيّة الوراثيّة ولا تفسح المجال لتداول السلطة؛ فيما بعد تمّ اعتماد مصطلح أكثر دقّة لوصف حكم الدول بالقول أنها أنظمة “سلطانيّة محدثة” يتداخل فيها الحكم السلالي مع الحكم الجمهوري، وليتم إخراج المفاهيم المؤسِسة للجمهوريات كالانتخابات الحرّة من مضامين الحكم السلطاني المحدث.
ومع حصول أوّل انقلاب عسكريّ في العالم العربيّ، انقلاب حسني الزعيم 1949، (إذا استثنينا انقلاب بكر صدقي في العراق عام 1936) نجد أن ما رافق حدوث الانقلاب كان إجراء أول عملية استفتاء أفضت إلى نيل “الزعيم” أوّل النسب الفلكيّة في عالم الاستفتاءات بمقدار 99,53%، الأمر الذي ألهم أنظمة انقلابيّة مقبلة للمضي في طريق الاستفتاءات وجعلها الطريق الملكية لمواصلة الحكم، ولعل الاستفتاءات التي تخصّصت فيها سوريا البعث أصبحت كرنفالات مكرّرة تقام كل سبع سنوات “لتجديد البيعة”، ومن جوهر التقليد السلطانيّ برزت مفردة البيعة بكل حمولتها التراثية، وما تحويه من معاني “التغلّب” والسيطرة واستمرارها، وإن كانت البيعة تعني في أزمنة غابرة المبايعة لمرّة واحدة وإلى الأبد، فإن النظام عدّل على صيغة البيعة لتصبح رديفاً للاستفتاء، فيما باتت الآن قرين الانتخاب!
والحال، أضحت استفتاءات تجديد البيعة الصيغة الوحيدة طيلة عقود من حكم البعث في سوريا، إلى أن قطعتها مسألة الانتخابات والإتيان بمرشّحين صُوريين مقطوعي النسب بالحياة السياسيّة، وغياب أي مرشّح ينتمي إلى المتن السياسي المعارض، ولعلّ مردّ الأمر هو استهزاء النظام بصورة المرشّح المنافس، ومحاولته استبدال فكرة الاستفتاء على المرشح الأوحد عبر اعتماد حيلة تعدد المرشحين، وبذلك يتحقق شيء من المزج بين الانتخاب والاستفتاء، أو ما يمكن تسميته بـ”الاستنخاب”.
شعار “إلى الأبد”، الذي يشير إلى حالة القطع مع الحياة الديمقراطيّة، وجد ضالته في الاستفتاءات السابقة، إذ كانت الاستفتاءات تكريساً لفكرة الأبد، فيما الانتخابات بمعناها الإجرائي الديمقراطي عنت نقيض الأبد، إذ لا تأبيد في الديمقراطيّة ولا في المعاني التي تحملها الانتخابات، وبالتالي تأتي ثاني الانتخابات المزمع إجراؤها في السادس والعشرين من الشهر المقبل، مزجاً بين نقيضين، الاستفتاء/الأبد وبين الانتخابات/ التغيير، وبطبيعة الحال فإن الاستفتاء المتحوّر إلى انتخابات رئاسيّة، يعني أن كل السوريين حتى من رشّح نفسه في منافسة بشار الأسد يعرف نتيجة “الانتخابات” سلفاً، وربما يستقيم المعنى بالقول: إن المرشّحين قد رشحوا أنفسهم لبشار الأسد، لا لمنافسته.
تحديد النظام مدّة سبع سنوات للاستفتاءات، ثم للانتخابات، يمثّل المعنى الأوضح لرفض فكرة التداول، والتي حددتها معظم الدول الديمقراطية بأربع سنوات، لكن لا بأس، فالسنوات السبع هي برهة، هنيهة، ولحظة بالنسبة للأبد الرئاسي، بالتالي تصبح الانتخابات “العدّة” الضروريّة لتكريس الشرعيّة، وبذلك تأتي الانتخابات في موعدها المحدد، دون الالتفات إلى ما يستوجبه الحل السياسي من وجوب التوقّف عن مثل هذا المسلك، وتأجيل الانتخابات إلى حين إعداد دستور جديد وتأمين انتقال سياسي وديمقراطي حقيقي، وبطبيعة الحال لا يرى النظام في العملية السياسيّة سوى جزءاً من مؤامرة، ولا يرى في أي مخرجٍ سياسي برعاية أممية إلا مساساً بالسيادة الوطنية!
وفي المضي بالانتخابات وما ستسفر عنه من نتيجة حتميّة، وهي فوز الأسد على منافسيه (اللا أحد)، سيزداد حنق المجتمع الدولي وغضبه على منطق “النكاية” المتواصل، وزعم التحصّل على الشرعيّة الانتخابيّة، وهي (الشرعية) كل ما تحتاجه إيران وروسيا للبقاء ما أمكن في سوريا، في حين سيبقى سيف العقوبات الغربيّة مسلّطاً على النظام، وقد يزداد بطريقة أكثر وضوحاً، ما يعني مزيداً من إفقار السوريين وتبديداً لسطوة وحضور النظام ودوره في القيام بمسؤولياته الاجتماعية أمام من يحكمهم، وفيما ستبقى السيادة السوريّة منتهكة ومتآكلة، سيواصل نظام دمشق تزجية الوقت للإجهاز على ما تبقّى من عملية سياسيّة.
ليس في مقدور الأسد تقديم جردة حساب لعهده الطويل، ليس في مقدوره أيضاً تقديم برنامج انتخابي لسنوات حكمه القادمة، وهو غير ملزم بذلك أصلاً أمام جمهوره، بل إن الحديث في الماضي والحاضر والمستقبل سيضع النظام في موضع السخرية التي لا تنقصه، هذا فضلاً عن عدم قدرته على الإحاطة بالجوانب الشكلية والفنية للانتخابات، وذلك لاستحالة إجرائها على كامل التراب السوري، ما يعني بطلان “العملية الانتخابية” رغم الديكور الرخيص الذي يحيط بهذه العملية، حيث تقدّم سبعة مرشحين إلى حلبة “المنافسة”، وتم إشراك المحكمة الدستورية العليا في قبول طلبات الترشّح، بالإضافة إلى تحضير قوائم بأسماء المغتربين في عدد من السفارات السورية في الخارج للراغبين في التصويت.
والحال أن الانتخابات/ الاستفتاء ستجري في الموعد المحدد لها، ولن يثني النظام أي اعتراض أو محاججة بضرورة الالتزام بالعملية السياسيّة والقرار 2254 وببنوده التي تحدّثت بوضوح عن مسألة الانتقال السياسي أو بروحيّة القرار التي تعني إنهاء الأزمة والانسداد السياسي المديد، بخاصة ما تم تأكيده من دعم مجلس الأمن “إجراء انتخابات حرة ونزيهة على أساس الدستور الجديد”.
وفي إزاء ما يبديه النظام من مكابرة وعناد، فإنه يعي جيداً مقدار الأزمة وحدّتها، وما سيصحبه عناده وتعطيله للعملية السياسيّة ومراكمته المشكلات والكوارث، بيد أنّه لا سبيل أمامه سوى الخوض في مسار انتخاب الرئيس فرضاً للأمر الواقع حتى وإن كانت الانتخابات بلون الاستفتاءات السابقة؛ فالمهم أن يبقى النظام إلى الأبد، حتى وإن فاقت صناديق الإغاثة بآلاف المرات صناديق الاقتراع.