في سوق النحاسين التونسيين، لا صوت يعلو على صوت المطارق والمسامير وهي تدق القطع النحاسية لتشكل منها تحفاً فنية وأواني وأشكالاً جمّة صنعت بصبر ودقة كبيرين.
وبين أركان هذا السوق المتربّع في عمق المدينة العتيقة في قلب العاصمة تونس منذ عقود، تختفي قصص وحكايات عشرات النحاسين ممن امتهنوا هذه الصنعة التقليدية الأصيلة بعد أن توارثوها عن أجدادهم وذويهم ومعلميهم، لكنهم اليوم يبحثون عمن يرثها.
محمد البوسالمي البالغ من العمر 73 سنة، الذي أفنى عمره في صناعة النحاس وهو اليوم أقدم نحاسي هذا السوق، يتحدث عن قصة صمود دكاكين النحاس التي يقول إنها قاومت كثيراً ولن تعمّر طويلاً.
حكاية صمود
لا أحد من رواد سوق النحاسين أو من أصحاب المحلات المنتصبة في المدينة العتيقة لا يعرف العم محمد، الذي قضى أكثر من 60 سنة من عمره في صناعة النحاس وصقله والنقش عليه.
على الرغم من تقدم سنوات العمر وبلوغه موعد التقاعد منذ أعوام، ورغم صعوبة المهنة، لم يترك العم محمد هذه الصنعة اليدوية التي أصبحت تشكل جزءاً من ذاته وأحد أهم مقومات نهاره.
ويقول: “بدأت قصتي مع صناعة النحاس منذ كنت في التاسعة من عمري بعد أن خبرتها عن معلمي، ففي ذلك العصر من لا يسلك طريق العلم يتخذ درب الحرفة، وأنا كنت من الصنف الثاني”.
لم يختر العم محمد صناعة النحاس بمحض إرادته، وإنما كانت هذه الصنعة وسيلته للإنفاق على عائلته بعد أن توفي والده حينما كان طفلاً وعجزت والدته عن التكفل بدراسته، ومع تقدم العمر عشق صقل النحاس والنقش عليه.
في دكانه الصغير، يتربع العم محمد على كرسي خشبي عتيق، يحمل مطرقته ومسماره الذي يختار سمكه وعمقه بعناية، ثم يمسك قطعة النحاس التي يبتاعها في شكل شريط نحاسي، ثم يباشر في الطقطقة عليها في اتجاهات مدروسة، إلى أن تتقولب في شكل قصعة أو “مقفول” (إناء يطبخ فيه الكسكسي ويسمى جزؤه السفلي الكسكاس)، أو طنجرة أو إبريق وغيرها من الأواني والتحف.
ويعلق: “هذا العمل ليس بالسهل، إذ يحتاج إلى صبر كبير ودقة في الصقل، وتركيز عند النقش على النحاس، لأن الإتقان هو ما يميز بين ممتهني هذه الصنعة اليدوية”.