سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

“المُحصيُّ” اسم من أسماء الله الحسنى

د. محمد فتحي عبد العال

دلالة الاسم أنه الجامع الشامل المحيط بكل موجود تفصيلا، والذي يحصي كل شيء بعلمه والأعمال والطاعات يوم القيامة والعالم المطلق بدقائق الأمور، لا تخفى عليه ذرة من ذرات الوجود لا يفوته منها دقيق ولا جليل وهو علام الغيوب،  وكل ما وقع وما يقع، وما هو واقع  وما سيقع في الدنيا والآخرة كله مقضي، ومقدر من الله عز وجل منذ الأزل، وقد ورد الاسم بفعله ومعناه في القرآن الكريم والحديث النبوي وليس صريحاً، قال تعالى في سورة الجن: (لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)، وقال في سورة مريم: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا (93) لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وقال تعالى في سورة يس: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ (12)، وقال تعالى في سورة النحل: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18)، وقال تعالى في سورة النبأ: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)، وقال تعالى في سورة المجادلة: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۚ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)، وقال تعالى في سورة  إبراهيم: (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)، وفي السنة النبوية ورد بإسناد ضعيف عن أبي الدرداءِ قال: (أبصرَني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأنا أُحرِّكُ شفتيَّ ، فقال: يا أبا الدرداءِ ما تقول؟ قلتُ: أذكرُ اللهَ، قال: (أعلمُك شيئًا هو أفضلُ من ذكرَ اللهَ الليل مع النهارِ، والنهارَ مع الليلِ، قلتُ: بلى، قال: قل سبحان اللهِ عددَ ما خلق، وسبحان اللهِ ملءَ ما خلقَ، وسبحان اللهِ عدد كلِّ شيءٍ، وسبحان اللهِ ملءَ كلِّ شيءٍ، وسبحان اللهِ عددَ ما أحصى كتابُه، وسبحان اللهِ ملءَ ما أحصى كتابُه (والحمدُ للهِ)، عددَ ما خلق، والحمد للهِ ملءَ ما خلق، والحمد للهِ ملءَ كلِّ شيءٍ، والحمدُ للهِ عددَ ما أحصى كتابُه، والحمدُ للهِ ملءَ ما أحصى كتابُه).

وفي صحيح مسلم عن  عائشة أم المؤمنين: (فقَدْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ؛ فَوَقَعَتْ يَدِي علَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وهو في المَسْجِدِ وهُما مَنْصُوبَتَانِ وهو يقولُ: اللَّهُمَّ أعُوذُ برِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وبِمُعَافَاتِكَ مِن عُقُوبَتِكَ، وأَعُوذُ بكَ مِنْكَ لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أنْتَ كما أثْنَيْتَ علَى نَفْسِكَ)، وفي صحيح مسلم أيضاً عن أسماء بنت أبي بكر قالَ لي رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: (أنْفِقِي، أوِ انْضَحِي، أوِ انْفَحِي، ولا تُحْصِي، فيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ).

هنا نتوقف عند الفرق بين “العد” والإحصاء، فالعد هو ضم الأعداد بعضها إلى بعض، أي مجرد عد الأشياء أما الإحصاء فيتعدى العد إلى التدقيق فيها والحفظ والإحاطة الكاملة والشاملة والوافية بأحوالها وصفاتها ومميزاتها وعيوبها وخصائصها، وثمة فرق شاسع بين إحصاء الله وهو يقيني وقطعي وإحصاء البشر، وهو ظني ومحدود، ومن سجايا اسم الله “المحصي” وفوائده وآثاره: ضرورة أن نتحلى بأخلاق الله ونكون حافظين له في قلوبنا وأعمالنا معتصمين بفضائله في كل شؤوننا، وأن نحاسب أنفسنا ونراقب الله في كل أقوالنا وأفعالنا، فعن عبد الله بن عباس أن النبي صلى عليه وسلم قال: (يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ)، والاستكثار من أوجه الخير عبر قراءة القرآن وكثرة الاستغفار والزكاة والصدقة والصلاة والقيام والجهاد في سبيل الله  قال تعالى في سورة المزمل: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ، ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20)، والحكمة تقول: (تخَلَّقوا بأخلاقِ اللهِ)، أي الحث على التخلق بمقتضى صفات الله وأسمائه وموجبها وبالمناسبة هذه العبارة الحكيمة ليست بحديث كما اشتهر على ألسنة الناس ولكن (الكلمةُ الحِكمةُ ضالَّةُ المؤمنِ حيثُ وجدَها فَهوَ أحقُّ بِها) كما ورد في حديث ضعيف لأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وحتى نحقق متطلبات هذه الحكمة السالفة الذكر فعلينا إحصاء أسماء الله الحسنى وحفظها، وتدبر معانيها واستخدامها في الدعاء لعظم ثوابها عند الله ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: (إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إلَّا واحِدًا، مَن أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ).

كما يرشد هذا الاسم وينبه دولنا الإسلامية لأهمية الإحصاء والقياس الذي أصبح حاضراً في كل العلوم الحديثة إذ لا يمكن إدارة  ما لا يقاس، ومن ثم لا يمكن تطويره وتحسينه  ومن الأمثلة المهمة على ذلك التعداد السكاني وأهميته في البحث والتخطيط الاقتصادي والاجتماعي والنهوض الصحي والتعليمي، ففي صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان  كُنَّا مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: (أحْصُوا لي كَمْ يَلْفِظُ الإسْلامَ، قالَ: فَقُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، أتَخافُ عليْنا ونَحْنُ ما بيْنَ السِّتِّمِائَةٍ إلى السَّبْعِمِائةٍ؟ قالَ: إنَّكُمْ لا تَدْرُونَ لَعَلَّكُمْ أنْ تُبْتَلَوْا، قالَ: فابْتُلِيَنا حتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا لا يُصَلِّي إلَّا سِرًّا)، وربما كان هذا في أول عهد الإسلام بمكة واشتداد أذى المشركين في دراسة نبوية وتخطيط مبكر للهجرة.

 الجدير بالذكر أن من بواكير عمليات الإحصاء العام للتعداد السكاني في العهود الإسلامية ما قام به الخليفة العباسي “أَبُو اَلْعَبَّاس عَبْدُ اَللَّهْ اَلْمَأْمُون بن هَارُونْ اَلرَّشِيد بن مُحَمَّد اَلْمَهْدِي بن عَبْدِ اَللَّهْ اَلْمَنْصُور اَلْعَبَّاسِي اَلْهَاشِمِيِّ اَلْقُرَشِيِّ”، وكانت الغاية منها معرفة مقدار الزكاة المطلوبة والمتوقع تحصيلها لصالح بيت مال المسلمين.