سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

“الميديا” وعبق الورق

عبد الرحمن محمد_

يوم بعد يوم، يزدادُ توغل وسائط التواصل في حياتنا، وهذه الوسائط، التي باتت تلامس أدق تفاصيل حياتنا، وتطّلعُ بقصد ودون قصد على أدق قصصنا، فصارت تعلم من أسرارنا، أكثر ما يجهله أقرب المقرّبين.
كيف أصبح هذا الكائن، أو الشيء، أو…. ربما نحتاج للكثير من الوقت؛ لنسميه التسمية الصحيحة، كيف له أن يصبح بيت سرنا كما يُقال، لنُسِرَّ إليه الأسرار كلها، ونطلعه على حقائق وخفايا، طالما أخفيناها عن أخوتنا، أو والدينا، أو أولادنا، وأن يقرأ مفردات حياتنا الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وكم من مرّة، كان هذا الهاتف الذكي”، الذي حل محل الورقة والقلم، في أحايين كثيرة، كم من مرة كان السبب في مشاكل، بل في كوارث بين أشقاء، وزملاء، وأزواج، وعملاء في العمل؛ لفشي سرٍّ… دون قصد؛ أو لفضول جائر قام به أحدهم، أو لصدفة أتت عل حين غرة.
هذا العالم الافتراضي، الذي أخرجنا في كثير من الأوقات من عالمنا الحقيقي بتفاصيله الجميلة، والموجعة على حد سواء، فبتنا فيه، ولو لبعض الوقت غرباء.
في ميادين الثقافة والأدب، وفيما يخص الكتاب، سرق الإنترنت عشاق الكتاب، وأغراهم بيسر الوصول للمعلومة، تاريخية كانت أم جغرافية، في عالم الحيوانات، أو في اللسانيات، وشهّى عشاق المعرفة والباحثين عن المعلومة السريعة، وخاصة الشريحة المتكاسلة الخمولة، إن جاز التعبير-التي لا تكلف نفسها عناء البحث في الكتب، والمخطوطات، والمعاجم.
الكتاب الورقي بات اليوم يشكو من عقوق القارئ، وجفاء الباحث، وشبه قطيعة مع طلاب العلم، باتت تلوح في الأفق، لطالما كان الكتاب معلما وناصحا، وصديقا ورفيق ليالي وأيام للكثيرين ممن عشقوا الإبحار في عوالم المعرفة، والفكر والعلوم، ولطالما كانت رائحة الورق من أزكى العطور عند محبي القراءة، وانتعشت نفوسهم بها، وكم من مرة، ومرة احتضن طالب المعرفة كتابا، وضمه إلى قلبة بكل إحساس دافئ ونبض جياش، فأحصى الكتاب دقات قلبه، وعدت صفحاته أنفاسه، التي داعبتها كسمفونية عذبة، كنسمة رقيقة، وكم من كلمات رقصت في عيون المحبين، وفي نبضات قلوبهم.
الآن وقد تنامي هذا العالم الافتراضي، والتقدم التكنولوجي، فقد نرى كتبا كثيرة تتوسّد رفوف المكتبات العامة، والخاصة، وربما نصادف الكثير منها باتت تشكو غبار الإهمال، وكآبة الوقت، وقد نرى كتباً أخر تنظر بعين الحسد إلى قارئ منهمك بهاتفه الذكي، يبحث عن معلومة في حاسوبه، وهو يضم بين دفتيه المعلومة الصحيحة، والأجوبة الفصيحة، لكن الحداثة الرتيبة تحول بينه، وبين الأيدي، التي طالما حملته بحنو، وقرأته بتمعن، وحفظت ما قرأته العيون في ذاكرة صافية رائقة.
تلك العلاقة الحميمة، التي جمعت القارئ والكتاب، وهذا التمازج الروحي بينهما، تجعل الكتاب حيا متكلماً، بل أنه يتنفس مع قارئه الهواء ذاته، فتسمو العلاقة المبنية على تآلف تام، فباتت التكنولوجيا اليوم تفسدها، ولو عن غير قصد، ليفتقد الكثير من محبي الكتاب عبق وعطر الورق، الذي حمل  ثمار العقول، وحصاد الفكر، بل إن التكنولوجيا بتفرعاتها، قللت وبشكل مفزع من النشر الورقي للأسباب ذاتها، غير إن الكتاب الورقي، ما يزال سيد الساحة لدى الكثيرين لما بينه وبين عشاقه من ودّ، قد لا نرى مثيلا له في ساحات التكنولوجيا، والعولمة الحديثة ولو بعد حين..