المسافة صفر… عندما يشارك الإعلام في صناعة القتل

م. إبراهيم حسين أحمد-

في عام 2012 كنا في دمشق نحاول معالجة أحد معارفنا من مرض لم نعرف بعدُ ما هو، وبعد إجراء الفحوصات والتحاليل الطبية تبين بأن المرض هو سرطان الرئة وقد وصل إلى مرحلةٍ لا يمكن معها السيطرة عليه، وبحكمِ متابعة الحالة، كان لنا لقاءات مع أطباء كثر لمعرفة إن كان من الممكن إنقاذه، وما فاجأنا أن أغلب الأطباء الذين قابلناهم ذكروا أن جميع مرضاهم كانوا من المحافظات الشرقية في سوريا، أحدهم قال إن لديه مريضٌ يُعالجه منذ حوالي 17 عاماً.

يستطيع فريق قناة الجزيرة الذي دخل متخفّياً إلى مناطق شمال وشرق سوريا، أن يراجع أرشيف أطباء الأورام في دمشق وخاصة أرشيف “مشفى البيروني”، لكي يتأكّد من الأرقام خلال العشرين سنة الماضية، أي قبل تأسيس الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا بسنوات.

نشرت قناة الجزيرة القطرية مؤخّراً تحقيقاً أسمته “المسافة صفر” ترصدُ فيه الحياة المعيشية وآبار النفط المحلية والحراقات البدائية، والأنفاق التي تم حفرها في مناطق شمال وشرق سوريا، وصفت فيه الوضع بالكارثيّ على جميع الصعد سياسياً وعسكرياً وأمنياً.

ولننطلق من مبدأ أن كل ما سرّبته قناة الجزيرة هو صحيح ولنتأمل الوضع في مناطق الإدارة الذاتية بعين محايدة لا بعين تركيا، التي استضافت فريق عمل قناة الجزيرة على أراضيها لمتابعة عمل الفريق المتخفّي في مناطق الإدارة.

هوّل التحقيق من وجود الأنفاق وطولها وعرضها ورسم لها خرائط بأسلوبٍ استخباراتيّ خطير وكأن تلك الأنفاق تشكّل خطراً على السلم العالمي، وفي النهاية يؤكد أن كل تلك الأنفاق تنتهي باتجاه مدن تركية وهو أسلوبٌ غرضيٌّ متقن، الغاية منه توجيه رسالة إلى تركيا المجاورة للمنطقة بأن أمنكم مهدد. ولو ناقشنا الأمر بعين المنطق لبادرنا بالسؤال في نفس السياق، هل سأل أحدٌ تركيا لماذا تطوّر طائراتٍ بدون طيار وطائرة بيرقدار مثالٌ على فخر الصناعة التركية كما أسموها.

تلك الطائرات أبادت كل شيء في المناطق التي احتلتها في شمال وشرق سوريا، بدءاً من عفرين وانتهاءً بـسري كانيه وكري سبي (تل أبيض)، ولو قامت تركيا بنشر مقاطع الفيديو التي سجّلتها عن طريق تلك الطائرة، وهي تقصف مناطق الإدارة الذاتية لوصل الأمر بها إلى تُهم ارتكاب جرائم حرب ضد الوجود الكردي بشكلٍ خاص ووجود كل المكوّنات الأخرى بشكل عام في مناطق الإدارة.

إن كان من حقِّ تركيا كدولة صناعة آلات قتل هجومية أليس من حق الإدارة الذاتية حفر أنفاق دفاعية؟ والأنفاق ليست وسيلة للقتل بل هي للحماية من القتل حتى لو كان الهدف منها عسكرياً، فلا يوجد جيش في العالم يحارب فوق الأرض طالما يعرف أن هناك طائرة ترصده من الأعلى ويمكن أن تستهدفه في أي لحظة.

في نفس السياق استعانت قناة الجزيرة في تحقيقها بالخبراء والأقمار الصناعية لكشف مدى التلوث الذي تسببه آبار النفط والحراقات البدائية في مناطق الإدارة الذاتية، والغازات المنبعثة نتيجةً لذلك، كغاز ثاني أوكسيد النتروجين، والكبريت والميثان والكربون والأوزون، والتي سجّلت أعلى قيم لها في شباط 2021.

قام فريق القناة باختباراته وكأنه يقوم بذلك في إحدى الدول الأوروبية وتناسى أن الاختبار يجري في شمال وشرق سوريا المنطقة التي كانت مهمّشة أصلاً أيام الحكومة السورية، فإن كانت الدولة السورية تُعتبر إحدى الدول النامية، فهذه المناطق كانت تسمى المناطق النامية بالنسبة للدولة السورية، وهي الآن محاصرة من كل الجهات وخاصة تركيا التي استضافت فريق العمل.

قبل حوالي السنة كانت هناك خطة لدخول شركة نفط أمريكية (دلتا كريسنت إنرجي) بالاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية إلى مناطق الإدارة الذاتية، لتكرير النفط، وبالتالي معالجة كل مشاكل الانبعاثات وإلغاء كل الحراقات البدائية في المنطقة، لكن الخطة قُوبلت بالرفض من قبل كل الأطراف وأولهم تركيا بحجج كثيرة منها أن الإدارة الذاتية غير معترف بها دولياً.

هل سنتوقع من منطقة محاصرة وإدارة ناشئة أن تكون معاييرها بمستوى معايير الدول المتقدمة في انبعاثات الغاز وغيره؟ وتأكيداً لتحقيق قناة الجزيرة حتماً ستزيد نسبة الأمراض رغم وجودها سابقاً، والمسؤول عن ذلك ليس الإدارة الذاتية، بل كامل المجتمع الدولي وفي مقدمتهم تركيا، إن حالات السرطان المنتشرة في شمال وشرق سوريا هي مسؤولية دولية وليست محلية كما تقول الجزيرة.

تنتقل قناة الجزيرة في تحقيقها إلى الضرب على الوتر القومي لتقول على لسان أحد الأطباء أن هناك كمٌّ للأفواه والمثال الوحيد الذي يأتي الطبيب على ذكره هو اعتقال مدرّسين في عامودا والدرباسية، لأنهم قاموا بتدريس اللغة العربية متجاهلين أنظمة التعليم لدى الإدارة الذاتية، لم يفهم الفريق إلى اليوم أن المنطقة تتبع قوانين بحكم عقدها الاجتماعي، وأن هناك إدارات ذاتية ومدنية تم تشكيلها خلال سنوات نشوء الإدارة الذاتية، وأن نظام التعليم مثله مثل أي نظام مؤسساتيّ آخر داخل مؤسسات الإدارة، ومن حق الجهات المختصة أن تحاسِب كل من يخالف هذه القوانين، وهؤلاء المدرسون قاموا بتدريس نظام تعليمي مخالف لقوانين الإدارة الذاتية، وكلُّ من يخالف يحاسب في أي دولةٍ كانت، هل سيرضى النظام التركي مثلاً أن تُدرّس فلسفة المفكر عبد الله أوجلان في مدارس أنقرة؟ رغم أنها مجرّد فلسفة!

هناك مغالطة يتم التركيز عليها في كل التقارير والتحقيقات المغرضة بشأن الإدارة الذاتية، وهي قضية “التجنيد الإجباري”، وهذا المفهوم مختلفٌ لدى الإدارة الذاتية، فالتحقيقات تبدأ من بداية خاطئة وهو ما يتعلق بالمصطلح والمضمون، فتسميته تجنيداً إجبارياً يهدف إلى تسمية من يتم سوقهم إلى هذه الخدمة بالمختطَفين، في حين أنه وفق مفاهيم الإدارة الذاتية هو “واجب الدفاع الذاتي”، فكل إدارة من إدارات مناطق شمال وشرق سوريا لها أبناؤها ومطلوبٌ منهم الدفاع عنها، لذا فهو واجبٌ لا بد منه وبدونه ستكون المنطقة مستباحة من كل الجهات، الإدارة هي كلٌّ متكامل ومتصل… إدارة (ذاتية) تعني ببساطة دفاع (ذاتي).

بالنسبة للوضع المعيشيّ في مناطق شمال وشرق سوريا فهذه المناطق لا تعيش بمعزلٍ عن كل سوريا وهي تبقى جزءاً منها، وقانون عقوبات قيصر سَرَى على الجميع بما فيها كل العقوبات الأخرى المفروضة على البلد، ورغم ذلك فمناطق الإدارة الذاتية أفضل المناطق من ناحية الوضع المعيشي، فأقل الرواتب في الإدارة الذاتية لا تقل عن 300 ألف ليرة سوريا مقارنةً بمناطق الحكومة السورية التي لا يزيد فيها الراتب عن 60 أو 70 ألف ليرة سورية.

قوات سوريا الديمقراطية التي أظهرها التحقيق كقوة تمارس القمع والإخفاء القسريّ هي القوة الوحيدة التي حافظت على أخلاقيات الحرب خلال السنوات الماضية، وحافظت بنفس الوقت على البنية التحتية في المنطقة من الدمار وعلى شعوبها من التشتت حتى بعد تحرير مناطقها من الجماعات الإرهابية.

إن التهويل الذي قامت به قناة الجزيرة في تحقيقها، أوضح بشكل جليّ أن الإعلام قد يصبح بيدقاً بيد الدول لتبرر عدوانها على المناطق الآمنة، وأن ظاهرَ التحقيق هو حقٌّ أريدَ به باطل، وهو خوف تمثيليّ على شعوب شمال وشرق سوريا، الهدف منه تأجيج الشارع التركي، الذي لن يتردد فيما لو لم يجد رادعاً من تدمير ما تبقى من هذه المناطق، وبالتالي الشعوب التي تخاف عليها قناة الجزيرة، التحقيق هو اتفاق تركي قطريّ في النهاية لضرب تجربة الإدارة الذاتية، وهو واضح لكل متأمّل ولأبسط المتابعين للأحداث الجارية.