رامان آزاد_
تستندُ السياسة منذ قيام الجمهورية التركيّة إلى جملةٍ من النظرياتِ التي تفتقر إلى السندِ التاريخيّ، التي سعت إلى جعلها جزءاً من العقل الجمعيّ التركيّ، لتكونَ مرجعيّة توحيد المجتمعِ وتحويله إلى خدمة السياسة الخارجيّة، ومنها الترويج لنظرية التفوقِ العرقيّ في محاكاة لنظرية شعب الله المختار، وقدرته الخارقة للانبعاثِ من حالةِ الموتِ.
أبناء الذئب
تفترضُ أسطورةُ التكوين الأولى للشعوبِ التركيّة نجاةَ طفلٍ من مذبحة تعرّض لها قومه على يد جيش مملكة “لين” الصينيّة، ولم يبقَ إلا طفلٌ قُطّعت أطرافه الأربعة، وأُلقي في العراءِ ليكونَ عبرةً بليغةً كيلا يتحدّى أحدٌ إرادة الملك، إلا أنّ القدر شاء أن تمرَّ بالطفلِ ذئبةٌ رماديّةٌ تنقذه وتنقله إلى كهفٍ سريّ في الجبال، وتلعق جراحه وترضعه، وتعتني به حتى اشتد عوده وكبر، وعُرف المكان في الأساطيرِ التركيّة باسم “أرغينكون”.
كبر الطفلُ وتزوج الذئبة فأنجبت له عشرة أبناء أصبحوا نواةَ الشعوبِ التركيّة، ويُعرفون باسم “الذئاب الرماديّة”، وقام الأبناء بمسيرةٍ شاقةٍ للخروجِ من الوادي الأسطوريّ، وانتقموا بمهاجمةِ المملكةِ الصينيّة ودمروها.
تفسّر هذه الأسطورة لدرجةٍ كبيرةٍ البُعد السيكولوجيّ للأتراك والعثمانيين متجاوزةً العلاقة المحرّمة بين الابن والأم، والبُعد الحيوانيّ لطفلٍ كسِب صفاتِ الذئبِ، إلى ما قام به سلاطين العثمانيين من قتلٍ لإخوتهم للوصول إلى السلطة، وكذلك دمويّة المعارك التي خاضوها والمجازر التي ارتكبوها وصولاً لعقوبةِ “الخازوق”، إلا أنّهم يتجاوزن ذلك إلى ما يتمتع به الذئب من ذكاء وشجاعة ودهاء، وإمكانية القيامةِ بعد الإبادة.
وانطوى تشكيلُ “الجيشِ الانكشاريّ” على تطبيق عمليّ بتجنيدٍ أطفالٍ من الأقاليم الخاضعة لسيطرتهم وبخاصةٍ المناطق المسيحيّة عبر “ضريبة الغلمان”، وعزلهم عن العالم في معسكراتٍ مغلقة ليكونوا جيش السلطانِ، وكثيراً ما تمَّ زجهم في حروبٍ ضدَّ أبناء جلدتهم، والمثالُ لا يختلفُ في تشكيلِ “القروجيين” أو حماة القرى لضربِ الكردِ ببعضهم، وكذلك تأسيس ما سُمّي “الجيش الوطنيّ” من السوريين واستخدامهم في احتلالِ مناطقَ سوريّة.
أسطورة التفاحةِ الحمراءِ
أجرت وسائل إعلام تركيّة مقابلات مع جنودٍ أتراك داخل مدينة عفرين، بعد احتلالها، ولدى سؤالهم عن وجهتهم القادمة بعد عفرين، أجاب جندي: “نحو “جبل قنديل ومنبج والموصل”، وقال آخر: “الهدفُ المقبلَ هو “قزل إلما” Kizil Elma ، وتعني “التفاحة الحمراء”، وهو مصطلحٌ شاع استخدامه، بعد عرضِ مسلسل “قيامة أرطغرل” التاريخيّ، الذي رصد سيرة أرطغرل بن سليمان شاه، والدِ عثمان الأول مؤسسِ الدولةِ العثمانيّةِ.
التفاحة الحمراء أسطورةٌ عسكريّةٌ ترمزُ إلى طموحاتِ الأتراكِ السياسيّة للهيمنةِ النهائيّة والتوسّع، ورغم أنَّ أصولَ الرمزِ غامضةٌ، ولكن يُحتملُ أنّه يعودُ لمرحلةٍ كان فيه الأتراكُ شعباً رحلاً ينتقلُ في سهوب آسيا الوسطى.
وورد مصطلح “قزل إلما”، بشكلٍ متعمدٍ في المسلسلاتِ التاريخيّة، على أنّه رمزُ القبائل التركيّة وتوحيدها سابقاً، والوصولِ إلى الأرضِ التي سيتمُّ غزوها والسيطرة عليها، وكان المصطلحُ يرمزُ في عهدِ السلطانِ سليمان القانونيّ للسيطرة على فيينا ثم روما، وبعد سقوط العاصمة البيزنطيّة القسطنطينيّة على يد محمد الفاتح في 29/5/1453، أصبح يرمزُ للسيطرةِ على كنيسةِ سان بيترو في روما.
وبحسب قاموس مصطلحات التاريخ العثمانيّ لمحمد زكي، فالمصطلحُ يعني “مواصلة الفتوحات حتى بلوغ النصر، والوصولِ إلى أقصى حدٍّ وأبعدِ نقطة”.
واستخدمت وسائلُ الإعلامِ التركيّةِ المصطلح بشكلٍ كبيرٍ في بداية العدوانِ على عفرين، وفي شباط 2018 قال الرئيس التركيّ أردوغان: إنَّ “جنودنا حين سألوا عن سبب ذهابهم إلى عفرين، قالوا التفاحة الحمراء، إنَّ معنى التفاحةِ الحمراء كبير جداً، وهو إعلاءُ كلمة الله تعالى، وهذا أمرٌ مهمٌ جداً”.
وقال أردوغان، في 10/3/2018 إنّه “”بعد تطهير” عفرين من “الإرهابيين”، سنتوجه إلى منبج وكوباني وتل أبيض وسري كانيه وقامشلو لتطهير كلّ هذه المناطق أيضاً”، وأضاف “نحن في عفرين وغداً سنكونُ في منبج وبعد غدٍ سنطهّر شرق الفرات حتى الحدودِ مع العراق”.
وفي خطاب ألقاه أردوغان عام 2020، بمناسبة معركة ملاذكرد التي جرت في 26/8/1071، وشهدت هزيمة السلاجقة الأتراك للإمبراطورية البيزنطية الناطقة باليونانية وفتحت الباب أمام التتريك في نهاية المطاف وأسلمة الأناضول، وقال أردوغان إن “تركيا ستأخذ كل ما يحق لها في البحر المتوسط وبحر إيجه والبحر الأسود، لن نقدم أي تنازلات”، وأضاف أن “اليونان لا تستحق تراثها البيزنطي”.
نظرية لغة الشمس بالتركيّة
نظرية لغة الشمس بالتركيّة Güneş Dil Teorisi))، وهي فرضيّة العلوم اللغوية القوميّة التركيّة الزائفةِ تم تطويرها في ثلاثينيات القرن العشرين، واقترحت أنَّ جميع اللغات البشريّةِ مشتقةٌ من لغةٍ بدائيّةٍ تركيّةٍ واحدةٍ. وبحسبِ النظرية فهذه اللغة البدائيّة لديها تشابهٌ صوتيّ وثيقٌ مع التركيّة، وبذلك تُنسبُ جميعُ اللغاتِ الأخرى إلى جذورٍ تركيّةٍ، وأنَّ عبّاد آسيا الوسطى، الذين أرادوا أن يحيّوا قدرةَ الشمس وصفاتها التي تمنحُ الحياةَ، قاموا بذلك بتحويلِ الثرثرةِ التي لا معنى لها إلى مجموعةٍ من الطقوسِ، ووُلدتِ اللغةُ، ومن هنا جاء اسمها.
في مؤتمر التاريخ الثاني في أنقرة عام 1932، قدّم الباحثان التركيّان “حسن رشيد تانكوت” و”إبراهيم نجمي ديلمين” نظرية أطلقا عليها اسم “لغة الشمس”، اعتبرا فيها اللغة التركيّة اللغةَ الأمَ التي انبثقت عنها كلّ اللغاتِ العظيمةِ الأخرى، وكانت لغة الشمس إعادةً لنظريةٍ بنفسِ الاسم قال بها أنور باشا، أول وزير حربيّة في حكومةِ الاتحاد والترقي عام 1917، لكنها لم تكتسب حينها أيّ قبولاً، بسببِ نظرةِ النخبةِ العثمانيّةِ إليها كـ”فكرة راديكاليّة مبالغٍ فيها”، وبخاصةٍ مسألة التخلص من الأبجديّةِ العربيّةِ.
استخدمت لغة الشمس للتوكيد على “واحديّة” الدولةِ التركيّةِ، ونفي وجودِ أيّ إثنيات فيها غير العِرق التركيّ، فما دامتِ التركيّةُ أمُ اللغاتِ كلها، فإنَّ من وُصفوا “بالأقليات” في تركيا هم بالضرورةِ أتراكٌ، واستفادتِ الحكومةُ التركيّةُ من تلك التفسيراتِ بشدةٍ في التهميشِ السياسيّ والإبادةِ الثقافيّةِ للكرد. ومن ذلك وصف أتاتورك الكرد بأنّهم “أتراكُ الجبال”.
نظرية المجال الحيويّ
هي النظرية التي ترى الدولةَ على أنّها مثلُ الكائن الحي لديه حاجاته ومتطلباته للعيش، لذلك عليها أن تتوسع، إن كانت قدراتها أكبر من مساحتها الجغرافيّة لتؤمّنَ احتياجاتِ سكانها.
أول من استخدم مصطلحَ “المجال الحيويّ” عالم الأحياء أوسكار بيسكال، في القرن التاسع عشر في كتابٍ بعنوان (مراجعة أصول الأنواع عند داروين) عام 1860، وفي عام 1897 نقل العالم الألمانيّ فردريك راتزل مصطلحَ “المجال الحيويّ” من علمِ الأحياء إلى السياسةِ في كتابه (الجغرافية السياسيّة)، واعتبر راتزل أنَّ الدولةَ كائن حيٌّ تدفعه الضرورةُ للتوسّعِ لضمِّ الأراضي التي يحتاجها حتى لو اضطر لاستخدامِ القوةِ لتحقيقِ ذلك، والدولةُ بنظره جزآن: جزءٌ بيولوجيّ (السكان) الموجودون في حدودِ الدولةِ قبل التوسّع، وجزءٌ معنويٌّ مستمد من ارتباطِ الإنسانِ بالمكانِ الذي يعيشُ فيه ويعملُ به.
كتب أدولف هتلر في كتابه (كفاحي) الذي نُشر عام 1925 أي قبل وصوله للسلطةِ بثمانية أعوام، في فصلٍ بعنوان “التوجّهُ الشرقية أو السياسة الشرقيّة”، عن الحاجةِ إلى “المجال الحيويّ الجديدِ لألمانيا”، وادّعى أنَّ “تحقيقَ المجالَ الحيويّ يحتاجُ إلى إرادةٍ سياسيّة، وأنَّ الحركةَ الاشتراكيّةَ الوطنيّة يجب أن تسعى جاهدةً لتوسيعِ المجالِ الحيويّ للشعبِ الألمانيّ، وتوفيرِ مصادر جديدةٍ للغذاءِ”.
وبوصولِ هتلر للسلطةِ في ألمانيا أصبحت نظريةُ “المجالِ الحيويّ” المبدأ العقائديّ للنازيةِ، وقدّمتِ النازيّةُ مبرراتِ التوسّعِ الإقليميّ الألمانيّ في أوروبا الشرقيّة والوسطى، وتضمن مبدأ النازيّةِ ضرورةَ القضاءِ على معظمِ السكانِ الأصليين من أوروبا الشرقيّة (بما في ذلك البولنديين، الأوكرانيين، الروس، الدول السلافية الأخرى)، إمّا عن طريقِ الترحيلِ الجماعيّ إلى سيبيريا، أو الموت، أو الاستعباد، على اعتبارِ أنَّ هؤلاء السكان أقلَ شأناً من الآريّة الجرمانيّةِ، كي يستطيع الألمان استعمارَ هذه الأراضي والاستقرار فيها، لأنَّ هذه الدول (أوروبا الشرقيّة) تمتلك أراضٍ زراعيّةً تؤمّن لألمانيا الاكتفاء الغذائيّ، وبدأت ألمانيا بتطبيقِ النظرية باحتلالِ بولونيا في 1/9/1939.
وخرجت فكرة المجالِ الحيويّ من المفهومِ العسكريّ إلى التطبيق السياسيّ والاقتصاديّ، وتعددتِ المجالاتُ الحيويّةُ للدولِ وفقاً لمصالحها واتضح ذلك جليا بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتيّ في أوائل تسعيناتِ القرن الماضي وأصبح العالم بأسره ضمن “المجال الحيويّ” للولايات المتحدة تقوم بدورِ الشرطي على الدول الأخرى وتتحدد السياسة الأمريكيّة تجاهها حسب مصالح واشنطن مع هذه الدولة أو تلك، من هنا تطور مفهوم نظرية المجال الحيويّ وتطورت أدوات التنفيذ.
التدخل العسكريّ التركيّ في سوريا جاء متوافقاً مع نظريةِ “المجال الحيويّ” في المستويين الاقتصاديّ والأمنيّ، وكذلك الربطِ الإداريّ للمناطقِ المحتلة بالولايات التركيّة، ولا حدودَ نهائيّةً حتى اليوم لهذا المجالِ مع استمرارِ القصفِ التركيّ لمناطق شمال وشرق سوريا.
الداروينيّة الاجتماعيّة وإبادة الشعوب
نظريّاً، طمحت الطورانيّة إلى أن تصبح الإمبراطورية العثمانيّة ولكن بدون مشاكل الشعوب ومضايقاتها. كانت الغاية الرئيسية التي تصبو اليها هي زيادة الشعور القومي عند الأتراك العثمانيّين، والعمل على إضعاف هذا الشعور عند الشعوب، وبخاصةٍ الكرد والأرمن، وإشعارها (أي الشعوب) أنّه لا مكانَ لأفرادها للعيشِ ضمن حدودِ الدولةِ الجديدةِ، ولتحقيق حُلم “دولة طوران” يجب أن تكونَ الأقوام الدنيا فريسة للأقوام العليا السامية بحسب القوانين الطبيعيّة، أو نظرية “الداروينيّة الاجتماعيّة”، وهي العنصريّة العلميّة التي درجت في الجامعات الألمانيّة في النصف الأول من القرن العشرين، ويُنظر إلى إبادة الأقوام الدنيا على أنّها غاية الأقوام النبيلة العليا، وتنظر الأخيرة إلى الأولى كعدوٍ لدود، وأن تُطبق برامج الإبادة تطبيقاً شاملاً دون التأثُّر بأحدٍ.
رغم إيجابيّة مقررات معاهدة سيفر 10/8/1920، إلا أنها نظرت إلى الكرد على أنهم شعب قاصرٌ، ويحتاج لوقت ليمتلك مؤهلاتِ إدارة شؤونه وتأسيس دولتهم، واحتلت القضية الكرديّة مكاناً بارزاً، في المعاهدة وخُصص القسم الثالث من الباب الثالث من المعاهدة لمعالجةِ المسألة الكرديّة، وحمل هذا القسم عنوان “كردستان” ويتألف من المواد 64،63،62 وتضمنت “إنشاء دولةٍ كرديّةٍ مستقلةٍ في تركيا، يمكنُ أن ينضم إليها كرد كردستان العراق “ولاية الموصل” إذا أرادوا ذلك، وأن تقوم لجنة من ثلاثةِ أعضاء تُعينهم الحكومات البريطانيّة والفرنسيّة والإيطاليّة مركزها إسطنبول، خلال ستة أشهر من تاريخ تنفيذ مفعول هذه المعاهدة، بإعداد مشروع حكم ذاتيّ محليّ للمناطقِ التي يشكّل فيها الكردُ الأغلبيّة والتي تقع شرق الفرات وإلى الجنوب من الحدود الجنوبيّة لأرمينيا، كما تحدد فيما بعد، وإلى الشمال من الحدود التركيّة مع سوريا وميزوبوتاميا”.
إلا أنّ مقررات مؤتمر لوزان أطاحت بما تم الاتفاق عليه في معاهدة سيفر، ورضخت بريطانيا وفرنسا للشرط التركيّ برفضِ مشاركةِ أيّ وفدٍ كرديّ في المؤتمر، ومنع مناقشةِ القضيةِ الكرديّةِ في باكور كردستان بشكلٍ خاص، مقابل ضمان مصالحهما والحفاظ على العلاقة مع تركيا، وشهدتِ المرحلةُ ما بعد لوزان مجازر كبيرة بحق الكرد وقمعاً دمويّاً لثوراتهم.
