المثقف واللغة ودورهما في تكوين الانتماء والهوية الكردية

دجوار أحمد آغا –

وجد البروفيسور مارتن فان برونس الهولندي الأصل آثار النفوذ الكردي في بقاع نائية مثل إندونيسيا حيث يقول: “مارس الكرد تأثيرا في إسلام إندونيسيا لا يقل عن تأثير دعاة إسلاميين آخرين مشهورين”.

كان معظم الأدباء والكتاب الكرد يكتبون بلغة السلاطين فنرى مثلا ابن الأثير المؤرخ وكاتب السير صاحب “الكامل في التاريخ” وابن خلكان وأبو الفداء وغيرهم كتبوا باللغة العربية, بينما ادريس البدليسي كتب الشرف نامة بالفارسية أما أول من كتب بالكردية فهو الشاعر والفيلسوف الكردي الكبير أحمدي خاني في ملحمة “مم وزين” والتي تضاهي روميو وجولييت لدى شكسبير.

تتألف الملحمة من 2655 وحدة ثنائية الأبيات ومن خلالها خلد خاني اسم الكرد حيث يقول من خلالها:

“وأيا تكن النواقص فهي تبقى معشوقتي وسأتغنى بجمالها”.

كما كتب الشاعر الكردي القدير حاجي قادر كوي 1816 – 1894: “الكرد وحدهم من دون شعوب الأرض قاطبة باقون من دون كتب أو أدب مدون …. لا تقولوا إن اللغة الكردية لم تبلغ شاة الفارسية نقاء, فالكردية تمتاز بلباقة لا تدانيها أعلى الذرى, لكن غياب التكافل بين الكرد حط من قيمتها و شأنها”  .

في عام 1898  صدرت أول صحيفة كردية تحت اسم “كردستان” باللغتين الكردية والتركية إنما ليس في كردستان بل في القاهرة, مما يعكس الصعوبات التي كانت تواجهها النخبة المثقفة الكردية في كردستان حيث كتب مقداد مدحت بدرخان في افتتاحية العدد الأول: “لسوء حظ الكرد, رغم شجاعتهم وذكائهم, يعيشون من دون أن يعرفوا ما يجري في كوكبنا. وأنا أنشر هذه الصحيفة لاطلاعكم على تطور الأحداث في العالم وتشجيعكم على القراءة والكتابة باللغة الكردية” .

بعد تقسيم كردستان للمرة الأولى وفق اتفاقية قصر شيرين 1639 والتي جاءت لرسم الحدود بين العثمانيين المنتصرين والصفويين المنهزمين على أثر معركة تشالديران 1514جاء التقسيم الثاني حيث تم تقسيم أراضي كردستان إلى خمسة أجزاء بقي الجزء الأكبر والرئيسي تحت الاحتلال التركي وريثة العثمانيين والقسم الآخر تحت سيطرة إيران وريثة الصفويين بينما أُلحقت ولاية الموصل (إقليم كردستان العراق) بالدولة العراقية حديثة التكوين والخاضعة للانتداب الانكليزي وضمت مناطق روج آفا إلى الدولة السورية التي تأسست أيضا حديثا كمملكة خاضعة للانتداب الفرنسي بينما ضمت أجزاء أخرى إلى كلا من أرمينيا وأذربيجان (مناطق نختشيفان وناكروني قرباغ وغيرها ).

منذ ذلك التاريخ وإلى الآن, ارتبط مصير الكرد وتطور لغتهم وأدبهم بمقدار ما تمنحه سلطات الانتداب ومن بعدها الحكومات المحلية في الدول التي كانت السلطة بيدها وهي في الغالب من الناس المعادية للكرد بشكل أو بآخر.

في أرمينيا تم منح الكرد قسم في إذاعة يريفان وانتشرت الأغاني والقصص والملاحم الكردية عبر أثير هذه الإذاعة إلى جانب ازدهار المطبوعات والصحف ودور النشر.

أما في بغداد  حيث نشر توفيق وهبي الأديب والباحث اللغوي الكبير كتيبا بعنوان Xwendewary baw  مقترحا أبجدية لاتينية من 28 حرفا سنة 1933  وعلى الرغم من أن كلا من الباحثان في شؤون الكرد واللغة الكردية فلاديمير مينورسكي وسي جي ادموندز قد أكدا على مدى أهمية اللاتينية للغة الكردية, لكن الكرد واجهوا معارضة قوية من جانب الحكومة العراقية حيث شددت الحكومة معارضتها لكل المحاولات والجهود الرامية لاستخدام الأبجدية اللاتينية في كتابة اللغة الكردية.

على الجانب الآخر كانت الحكومة التركية ترفض مجرد ذكر اسم الكرد وتنفذ سياسة الصهر والإبادة الثقافية وبتاريخ الثالث من آذار 1924 الذي كان يوم إلغاء الخلافة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية أصدر مصطفى كمال مرسوما بحظر جميع المدارس والجمعيات والمطبوعات الكردية ومنع التعليم والنشر بالكردية تحت طائلة المحاسبة والعقاب وامتد الحظر والمنع إلى التحدث بالكردية في الدوائر الحكومية والسجون وحتى الأماكن العامة لا بل أصبحت كلمتي الكرد وكردستان مخالفة قانونية تستوجب العقاب وتزج بك إلى السجن.

بينما في روج آفاي كردستان ولبنان التي انتشر فيها الكثير من الكرد المنفيين والهاربين من بطش الفاشية الكمالية في تركيا رفعوا مذكرة إلى سلطات الانتداب الفرنسية في حزيران 1928 بالسماح بحق استخدام اللغة الكردية للتدريس في روج آفا, لكن سلطات الانتداب رفضت المذكرة والتف عدد لا باس به من المثقفين والمتنورين الكرد حول الأمير جلادت بدرخان 1893 – 1951 الذي وضع تحت الإقامة الجبرية في دمشق بعد فشل انتفاضة آكري بقيادة احسان نوري باشا 1927 – 1930 وكان من نتائج هذا الالتفاف أن اصدر الأمير جلادت مجلة هاوار سنة 1932 وبالأبجدية الكردية المؤلفة من 32  حرفا.

أما في روجهلات, انتهجت الحكومة الفارسية نفس سياسة تركيا في صهر الكرد حيث أقر أول دستور إيراني سنة 1906 بأن الفارسية هي اللغة الرسمية الوحيدة في البلاد رغم تعدد الأعراق والملل في إيران, وبعد وصول الشاه رضا خان إلى السلطة, أصدرت مديرية التعليم العامة تعميا بحظر استخدام اللغة الكردية في المدارس وتم إغلاق جميع المدارس الكردية وكافة المطبوعات من صحف ومجلات وكتب وكانت عقوبة من يمتلك كتابا باللغة الكردية السجن لمدة سبع سنوات وتم فيما بعد حظر المناسبات والاحتفالات وحتى الملابس الفلكلورية والأغاني والموسيقى الكردية في سياسة مشابه تماما لما تقوم به تركيا في عملية إبادة ثقافية ممنهجة بحق الكرد.

نستنتج مما سبق, بأنه يجب على المثقف الكردي أن يكسر التصنيفات المقولبة والمختزلة التي تحد من التفكير والتواصل الكردي الكردي وأن يعتمد اللغة هدفا محدداً ومهما للغاية في تكوين وتطوير مفهوم الانتماء الكردي الصرف وليس اللجوء إلى مسألة اللهجات والأجزاء وإلى ما هنالك من تقسيمات فرضها المحتل علينا ككرد في سبيل السيطرة على بلادنا.

لا بد للمثقفين الكرد من العمل وبشكل دؤوب ومتواصل في سبيل نشر اللغة الكردية والثقافة الكردية وتنميتها بين الجماهير والابتعاد عن الكبرياء والتحيز في الوسط الثقافي والبقاء فقط بين النخبة الأدبية, عليهم يقع دور مهم وكبير في تقديم المعرفة وأهمية استخدام اللغة والثقافة في تأكيد أصالة وجذور هذ الشعب المضحي والمقاوم والذي لا زال متمسكا بلغته وأرضه. في الوقت نفسه فأنه يجب على المثقف الكردي الابتعاد عن التأثر المباشر بالقوى أو الجهة السياسية التي ينتمي إليها وأن ينظر بحيادية إيجابية إلى هذه المسائل بحيث يكون لديه قدرة وتأثير على إحداث التغير في المجتمع.

لا شيء يشوه السلوك العام للمثقف أكثر من الزركشة والصمت الحذر والتبجح الوطني الزائف والمعبر عن الذات.

يقول المفكر والفيلسوف الإيطالي انطونيو غرامشي 891 –  1937: “كل الناس مثقفون, وبناء عليه يمكن للمرء أن يقول لكن لا يمارس كل الناس وظيفة المثقفين في المجتمع”.

من دفاتر السجن.