سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

المبدعون بالعالم العربي.. ضوء عابر ومأساة عند خَريف العُمر

وَكالات

 لا يوفِّر المجد الذي يعيشه مغنّي أو مُمّثل أو كاتب أو مفكّر اليوم أدنى ضمانة لحال الغد، ولا يمنع انحدار المبدع عموماً في العالم العربي إلى مهاوي المأساة في خريف العمر أو دوّامة المرض والفقر أو برد المنفى، وسط صمت المؤسسات وأمام أعين الرفاق والجمهور على السّواء.
ويعيش المرء ما طاب له من سنوات الشّهرة التي تفتح له البيوت والقلوب وتسمن ألبوم صوره، ثم يحدث أنْ يتبدّد الرّصيد الرّمزي سريعاً في مجتمع لا يوفر لمبدعيه من الفنانين والأُدباء تقاليد للتّكريم الرّمزي وأنظمة للحماية الاجتماعية المادية تشد أزرهم حين ينساهم الناس وتغلق دونهم أبواب المسارح والمطابع ومختلف المحافل وتسدل عنهم أضواء الكاميرات.
سيرة الجاحظ الذي عاش ومات فقيراً تتناسل في أحفاده وصولاً إلى مفكر كبير انتهى معدماً من طراز العقاد وشاعر ملأ الفضاء من عيار أمل دنقل وفنانين زرعوا البسمة في عرض العالم العربي من قبيل عبد السلام النابلسي وإسماعيل ياسين ونهاد قلعي ونجمات الصّف الأوّل مثل “سندريلا الشّاشة” سعاد حسني و”شاعر أفريقيا” محمد الفيتوري.
وظلت القائمة مفتوحة لكل أطياف المبدعين الذين جسدت حياتهم درس الخذلان العظيم وآفة النسيان وغياب ثقافة الاعتراف، والعناية في النسيج الاجتماعي العربي.
وكانت بعض النّهايات متوقعة تقريباً لأنّها ثمن دفعه مبدعون ومثقفون اصطدموا بسقف منخفض للحريّة، وتجشموا عسف الملاحقات والمُطاردات البوليسية فهاموا على وجوههم في المنافي.
وانتهى كتاب وفنانون عراقيون وسوريون وسودانيون بهويات مجهولة على الأرصفة الغريبة، لكن غالبيتهم ذاقوا مرارات خريف العمر بين ذويهم وسط صمت يتواطأ عليه الجميع من مؤسسات رسمية ومنظمات أهلية أحياناً.
ومن لم يعرف رفعت سلام شاعراً من رموز جيل السبعينيات في مصر ومترجماً وصاحب مجلات ومتوَّجاً بجوائز أدبية، عرفه حالة اجتماعية في الأيام الأخيرة على صفحات التواصل يتعبَّأ لإنقاذه من براثن المرض جمع من المثقفين في مصر والعالم العربي.
وكان على الشاعر في ظل غياب تغطية صحية نظامية أن ينتظر دوره في صف الموت لولا هبة من الرفاق أثمرت مؤخراً تكفّلاً استعجالياً بمبادرة خاصّة على إثر بيان وقعه كتاب من مصر وخارجها.
نِهايات صَادمة
صدم الوسط الفني والجمهور في المغرب بحالة رواد التّمثيل المسرحي والسينمائي محمد الخلفي وهو يحصي أيّامه وحيداً فقيراً في بيت هش بإحدى الضّواحي المنسيّة بعدما تزامن انقطاع عمله مع انقطاع مورد الرّزق في حين حل العجز والمرض ضيفا ثقيلا.

ورحل القاص المغربي محمد جبران عن الدنيا أواخر 2019م، بعد أن سار بذكر معاناته الوسط الأدبي واحتدمت بشأنه الاتّهامات والاتهامات المضادّة بين قليل من أصدقائه الباقين واتحاد كتاب المغرب غداة الحديث عن طرده من سرير مستشفى عمومي وهو في حالة عجز تام.
ووَثّقت صحف في سوريا مشاهد من الفصل الأخير لحياة الفنان الدّرامي والمسرحي رياض شحرور الذي أسس أول فرقة مسرحية منتصف القرن الماضي، وشيع قبل سنوات في صمت بعد شيخوخة من العزلة والعوز دون أن يحظ بأي عناية رسمية أو أهلية، رغم أنه ساهم في تأسيس نقابة الفنانين.
وكان النّاقد المسرحي عبد الحليم بوشراكي في الجزائر قد ألقى حجراً في الماء الرّاكد حين خاطب وزارة الثّقافة بخصوص الوضع الصحي والاجتماعي الحرج للمخرج محمد شرشال الذي شرّف الجزائر داخل وخارج البلاد وقوبل بتكريم خاص في أيام قرطاج المسرحية قبل أن يداهمه قلب عليل ناء بالخيبات والخذلان، كما قال بوشراكي.
أمل ونقطة ضوء..
ثمة ما يلطف قتامة الوضع في جملة من البلدان العربية التي سجلت حركة لافتة منذ العقد الثاني للألفيّة الجّديدة في اتجاه إرساء آليات قانونية ومؤسسية لحفظ كرامة الفنانين، وتمكينهم من الحد الأدنى من الرعاية الصحية والمادية.
وصدر في المغرب عام 2016م، قانون الفنان والمهن الفنية، وقبله تأسست التعاضدية الوطنية للفنانين سنة 2007م، بمبادرة من نقابة محترفي المسرح وشركائها لتوفير التغطية الصحية للمنخرطين.
وصدر في الجزائر المرسوم التنفيذي المُتعلق بالحماية والخدمات الاجتماعية للفنان عام 2014م، بغرض تمكين الفنانين من بطاقات مهنية تخول لهم خدمات للحماية الاجتماعية، كما صادق مجلس الحكومة بتونس منذ 2017 م، على مشروع قانون يضع أسس حماية الحقوق الأدبية والمادية للفنان وضمان حمايته اجتماعياً.
ويُنظم قانون تنظيم المهن الفنيّة في لبنان منذ 2008م، تأسيس وعمل النقابات الفنية، وينص على إنشاء صندوق التعاضد الموحد للفنانين الذي يوفر التعويض عن المرض والوفاة والحوادث الجسدية ويؤمن معاشا للمنتسبين وتكفلاً طبياً شاملا.
وتلوح النّصوص والآليات والنّقابات بالجملة لكن قاسمها المشترك الاصطدام بعوائق عملية ليس آخرها إشكالية تعريف الفنان أو الكاتب، ومحدودية في النتائج الملموسة على مستوى عيش الفنانين والمثقفين وصيانة حقوقهم كمواطنين مسهمين في التنمية البشرية التي تجمع كل أدبياتها اليوم على دور الإنتاج الثقافي والفنّي في الدفع بعجلتها وصنع التغيير الاجتماعي والاقتصادي.
وباتت الصناعات الثّقافية في الغرب قطاعات طليعية في إنتاج الثّروة وتحريك عجلة الاقتصاد، لكنها عاجزة عن تأمين الحاجيات الدّنيا لمبدعيها الذّين يكابدون لانتزاع حق الكرامة في الحياة والممات.