سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

اللغة الحضارية

د. مصطفى عطية جمعة

إذا كانت اللغة عنصرا مستقلا للتواصل بين أبناء الجماعة اللغوية الواحدة، فهي أيضا تصبح عنصرا حضاريا، عندما تحمل ألفاظها وتعبيراتها دلالات مستقاة من مرجعيتها الثقافية، وتجربتها الحضارية، ورسوخها الاجتماعي، وساعتها تتمكن في الأذهان والألسنة والأفئدة، ومن ثم تصبح اللغة أداة حضارية، وتكون سببا ووسيلة وغاية، في مواجهة أي غزو فكري أو استعماري.

ووفق النظرة اللغوية للتاريخ الإنساني، فإن سكان العالم الحاليين ليسوا ثمانية مليارات نسمة، وإنما يزيدون قليلا على ستة آلاف؛ فهنالك ما بين ستة آلاف إلى سبعة آلاف مجتمع في العالم معرَّفون تحديدا باللغة الأولى التي يتكلمونها، وهم ليسوا متساويين في العدد، فلغة الماندريين الصينية يتكلم بها أكثر من مليار نسمة، تليها اللغة الإنكليزية والإسبانية، ولكل منهما أكثر من ثلاثمائة مليون نسمة، وقد تزيد حسب الانتشار العالمي، لكن المفارقة أن نصف لغات العالم ينطق بكلٍ منها أقل من خمسة آلاف متكلم، وهناك أكثر من ألف لغة، لا يتكلمها إلا بضعة أشخاص. فالمجتمع اللغوي في التاريخ الإنساني وحدة طبيعية جدا، فاللغات بطبيعتها كأدوات اتصال تقسّم الإنسانية إلى مجموعات، ولا تستطيع أي مجموعة من الأشخاص أن تتصرف بشكل جماعي منسجم، إلا من خلال لغة مشتركة، تحمل التاريخ والذكريات، وتحفظ تراث الجماعة، فاللغة تجسيد لتقليد، واللغات تتغير عندما تنتقل من جيل إلى آخر، لكن لا شيء في عملية النقل هذه يمثّل التلاشي، أو الانطفاء، فلكل لغة فرصة الخلود، وهذا يتوقف على الروافد الثقافية والحضارية لها، فحوليات تاريخ اللغة مليئة باللغات التي ماتت وتلاشت، والتقاليد التي انتهت، فلم تترك وراءها أي ناطق.

إن حال اللغات، كما يذكر لويس جان كالفن، مثل الكائنات الحية، والأجسام البيولوجية، وفق ما هو شائع في خطاب اللسانيين، فهناك لغة حية وأخرى ميتة. أي أن للسان حياة، يحيا بالناطقين به، ويموت عندما يموت ناطقوه، ولا يجد من يرثه. يضاف لذلك، أن اللغات نفسها تتغير من حال إلى حال، عبر العصور، فيمكن الحديث عن الفرنسية القديمة، والألمانية القديمة، والعربية الفصحى القديمة. هذه التحولات تعبير لغوي عن حركات لغوية واجتماعية وثقافية لا يمكن فهمها بسهولة، إلا بعد تحليل عميق لمختلف العوامل المؤثرة في التحول.

إذن، هناك لغات منقرضة، وهناك لغات على وشك الانقراض، وهناك لغات تقوى وتنتشر وتتسيد، وهناك لغات تتراجع، وهناك لغات تتغير في نطقها ومفرداتها، فاللغة مثل الكائن الحي، يصيبها ما يصيبه من قوة وضعف، وتغيّرٍ وتحول، وكل هذا يتوقف على عوامل عديدة، أبرزها عامل الحضارة، الذي يجعل اللغة في حالة حياة دائمة، حيث تظل مخزونا لا ينضب للمعرفة والتقاليد والعلوم.

ويمكننا أن نصف اللغة العربية بأنها لغة حضارية في المقام الأول، و”اللغة الحضارية” وفق تعريف إبراهيم السامرائي هي: اللغة التي سلخت من عمرها أحقابا طويلة، فكانت مرآة لأدب قويم عال، وفكر ثاقب متفاعل، وهذا يعني في المنطق اللغوي أن تشتمل على ألفاظ كثيرة شاملة لمدلولات كثيرة، تعبّر عن حاجات مختلفة عرضت للناس في مختلف العصور.

فاصطلاح «اللغة الحضارية» يعني في المقابل أن هناك لغات غير حضارية، فنعت اللغة بأنها حضارية، يشير إلى رحلة زمنية وتاريخية مع الحضارة، أثمرت تفاعلات أدبية وفكرية، وإثراءً لقاموسها اللغوي، الذي سيعبر عن حاجات الناس، وتطور حياتهم وعمرانهم وعلومهم وفنونهم حضاريا، وسيترجم كل هذا في مفردات وتعبيرات، تمتاح من الجذور اللغوية الأصلية للغة، وتضيف عليها ما تستعيره من اللغات الأخرى، وعلى قدر ثراء الحضارة تُثرى اللغة.

سيكون السؤال: ما العناصر الحضارية المؤثرة لغويا؟ والجواب أنها: التجربة الروحية، والمذهب الفكري، والأداة في يد الصانع، كلُّ ذلك من عناصر الحضارة، فالمذهب والتجربة تراث، والأداة والآلة من قبيل المدنية، والجانب النفعي من كل أولئك مدني، وكلا الجانبين ينتهي إلى مفهوم الحضارة. والثقافة هي حضارة مصغرة، فهي جزء من كل، فثقافة المجتمع جزء من حضارته، ولكل حضارة إطارها الروحي والفكري ومظهرها المادي، وهذا المظهر المادي يعرف باسم المدنية، أما الثقافة فيغلب عليها عنصرا الروح والفكر. فالحضارة حاوية للثقافة بمكوناتها اللامادية، وهي تتسع أيضا لتشمل المدنية، بما تدل عليه من نشاط مادي، ومعرفة تطبيقية، فهي تشمل كل ما ينطوي عليه الكيان الاجتماعي من مبادئ الدين والسياسة والاقتصاد والأخلاق والثقافة، أما المدنية فتعبر عما حققه الإنسان في واقع الحياة من خبرات عملية. فالحضارة إن لم تؤدِ إلى تطوير معيشة الإنسان، وفي تحقيق مستوى من الرفاهية له؛ تصبح مجرد علوم نظرية، غير مؤثرة. فالمدنية هي الوجه العاكس للتقدم الحضاري ماديا، مثلما أن اللغة تعكس التقدم الحضاري والثقافي في كل أوجهه.

ويمكن في هذا الصدد، الحديث عن امتصاص بعض اللغات للبعض الآخر، فمثلا الفرنسيون يتكلمون اليوم اللغة اللاتينية، وهي لاتينية عمرها عشرون قرنا، تتميز بأصول ألمانية قديمة، وبمفردات مأخوذة من كلام الأجداد من شعب الغول. وأيضا هناك لغات تذوب، فقد ذابت الفرنسية والساكسونية لتولد منها اللغة الإنكليزية، وهناك لغات اندثرت، وتبقّت نقوشها، وهناك لغات في طريقها للاندثار، فقضية موت اللغة أو حياتها مسألة نسبية، تقاس بدورانها على الألسنة، وقد تظهر لغة عامة من لهجات عدة، فيما يعرف باسم التوحّد اللغوي. فاللغة نظام معين من النظم الاجتماعية، خاضعة لتطور مشروط، بتطور الجماعة التي تتكلمها، فهناك من يتحدث عن موت اللغة اللاتينية، والحقيقة أنها لم تمت، وإنما أصابتها تغيرات عميقة، وأنتجت أشكالا من لغات حديثة مثل البرتغالية، والقشتالية، ولغة كتالونيا، ولغة بروفانس، والفرنسية والإيطالية والإسبانية والرومانية. وهناك لغات ستعلو حضاريا، وستقبل عليها النخبة في العالم، لأن دولها ستعلو حضاريا وعلميا وسياسيا، فحركة الحضارة الإنسانية لا تعرف من يتربع على القمة إلى الأبد، وإنما هناك حضارات تعلو، ثم تخبو، وهناك حضارات كانت خابية وعلت.

وبناء على هذا، تسقط ادعاءات ربط اللغة الحضارية بالعرق والجنس، بمعنى أنه لا توجد لغة تعبّر عن جماعة مستطيلي الرؤوس، ولغة أخرى تعبر عن جماعة مستديري الرؤوس، أو أن هذه اللغة راقية تعبر عن رقائق الفكر ودقائق الإحساس، لأنها تعبر عن جماعة عرقية، أصحابها ناعمو الشعر، وأن هناك لغة متخلفة لأن أصحابها مجعدو الشعر. وللأسف، فإن هناك مذاهب ونظما سياسية استغلت هذا التوجه، للتعصب لجنس ما، والزهو بلغته، واتخاذه ذريعة للسيطرة على شعوب تنتمي لأجناس أدنى منها، ويتكلمون لغات أدنى من لغاتهم، وبالتحديد أنصار الجنس الآري خاصة، والأوروبي عامة، الذين رأوا أن عائلة اللغات الهندوأوروبية أسمى من اللغات السامية والحامية، وأن سائر اللغات يجب أن تخضع لها. وهو منظور سقط علميا، فلا يمكن للأنثروبولوجيين، أن يقولوا إن أصحاب الجماجم التي عثروا عليها، كانوا يتكلمون لغة متحضرة أو متخلفة، بل إن اللغة تنتشر لعوامل عديدة، لا علاقة لها بالجنس وشكل الجسد. فاللغة العربية انتشرت بين شعوب من أجناس مختلفة، لا تربطهم بالعرب الأصليين أي صلة.