رامان آزاد_
نشطت في الآونة الأخيرة ظاهرة جمع التبرعات، عبر البث المباشر تحت عناوين إنسانيّة وخيريّة، وفيما يقول أصحابها: إنّهم يهدفون لنقل النازحين من المخيمات إلى مساكن إسمنتيّة، فإنّهم بذلك يدعمون خطط التغيير الديمغرافيّ بخلق أسباب الاستقرار، والواقع أنّ أنقرة استنفرت قوتها الناعمة كلها لتثبيت التغيير الديمغرافيّ ليكونَ ذريعةَ الضمِّ لاحقاً.
التغيير الديمغرافيّ هدف وليس نتيجة
في 31/1/2018 أغارت الطيران التركيّ على قرية خالتا/ الخالدية الصغيرة بناحية شيراوا، والواقعة على جبل ليلون، وأحالت بيوتها إلى ركام، ولم تُبقِ حجراً على حجر، وفي 30/8/2021 اُفتتحت “قرية كويت الرحمة” الاستيطانيّة في موقع قرية خالتا، بعد استكمال أعمال البناء، وأقيم مشروع القرية من قبل جمعية “شام الخير” الإخوانيّة الكويتيّة، لإسكان مستوطنين، اُستقدموا من مناطق سوريّة أخرى، وفق تفاهمات روسيّة ــ تركيّة.
ويتضح أنّ تدمير القرية الكليّ كان أولى الخطوات لإزالتها، ولتمهيدِ الموقع للبناءِ عليها لاحقاً، فالتغييرُ الديمغرافيّ يقوم على مرحلتين أساسيتين الأولى بالتهجير القسريّ لأهالي المنطقة الأصلاء، وهم الكرد، ومنع عودتهم، وتضييق سُبل الحياة على ما تبقى فيها، ودفعهم للخروجِ من المنطقة، والثانية باستقدام المستوطنين من مختلفِ المناطق السوريّة، وتولى الجانب الروسيّ هذه المهمة عبر قصفه المركز لقرى وبلدات الغوطة بريف دمشق، وترحيل أهلها إلى الشمال، ليكونوا في عهدةِ الاحتلال التركيّ، وبذلك فإنَّ عملياتِ القصفِ والعملِ العسكريّ كانت أداةً لدفعِ الناسِ للخروج من مناطقهم، لتغيير الهندسة الديمغرافيّة في مناطق سوريّةٍ مختلفة، وفقاً للتوجّهات السياسيّة، فتقاطعت الأهداف التركيّة والروسيّة، في إطار خطةٍ واحدةٍ متكاملةٍ.
وعلى مدى أربع سنوات من الاحتلال التركيّ لعفرين، وعمليات الترحيل الروسيّ لأهالي الغوطة، لم تُتخذ أيّ مبادرةٍ لإعادةِ الناسِ إلى بيوتهم في قراهم وبلداتهم، والتزم الجانب الروسيّ خطةَ تجميع عناصر الأزمة السوريّة شمالاً بعيداً عن العاصمة، ليوسّعَ الإطارَ الآمن حولها، ويكسبَ المزيدَ من الوقت، فيما استثمرت أنقرة العناصر غير المنضبطة لتقودها وتزجّها في عملياتها العسكريّة في سوريا أو تنقلهم إلى ليبيا وأذربيجان.
في إطار خطتها، روّجت أنقرة بديلاً عن الانتماء الوطنيّ عبر مفهومِ الأمةِ الإسلاميّة، والجهاد والمذهبيّة، وكذلك مفهوم الأمة التركيّة ومظلوميّة التركمان في سوريا، وخلق قضية لهم. وقال أدوغان عشية بدء الغزو التركيّ: “إنّ عفرين مدينة عربيّة تركمانية وليست كرديّة، ونسبة الكرد فيها لا تتعدَّ 35%”، وكشف التصريح عن ملامح الخطة التركيّة، من غزو عفرين واحتلالها.
آثار مديدة للاحتلال
معلومٌ أنّ الاحتلال يقتصر على القوات المسلحة والعسكريين النظاميّين، وحتى المرتزقة، إلا أنّ أيّ احتلالٍ عسكريّ من شأنه أن يجرَّ عوامل الرفضِ، وسيبقى مؤقتاً وتزولُ آثاره مع متغيراتِ الوضعِ الميدانيّ وحتى السياسيّ، إلا أنّ أنقرة بدأت عملياتِ دقيقة عير القوةِ الناعمة، وبناء القرى الاستيطانيّة والمدارس والمساجد، والتعليم وتتريك المجتمع والربط الاقتصاديّ وعزل منطقة عفرين عن الداخل السوريّة، وتفويضِ المرتزقة باستباحتها، وكان ذلك البعد الأكثر عمقاً للاحتلال، وهذه الإجراءات لها آثار مديدة حتى لو انسحبت القوات المحتلة.
يتخطى الأمر النتائج المباشرة للوجود العسكريّ التركيّ كقوة احتلالٍ مؤقتةٍ، فهناك خطةٌ متواصلةٌ لإنشاءِ بنيةٍ تحتيّة تركيّة تتمثلُ بالمدارس والمستشفيات وشبكات الري والجامعات والمشافي، والمستوصفات والمؤسسات الاقتصاديّة الصغيرة والمتوسطة، والتي تشير إلى نيةِ البقاء إلى أمد طويل في جغرافيا الشمال السوريّ عبر القوى الناعمة، بصرف النظر عن التسويات القادمة، التي ستلحظ مصلحة تركيا بالأمن القوميّ والمكسب الاقتصاديّ حتى بعد الانسحاب، وتمارس سلطات الاحتلال التركيّ الانتهاكات بحق سكان شمال سوريا الأصليين عبر وكلاء مرتزقة سوريين، وأجانب وتوفر لهم الغطاء والحماية مقابل دعم مسار ديمومة النفوذ التركيّ.
في تصريح لموقع “سكاي نيوز عربية ” في 9/6/2021 قال الباحث في علم الاجتماع السياسيّ، سميان همواند: “هناك استراتيجية تركيّة واضحة وراء هذه الخطوات كلها، وأضاف: “تُعدّ تركيا أنّ أكثر من أربعة ملايين سوريّ من المُقيمين في مناطق شمال سوريا، مهاجرون إلى أراضيها، يُضاف إليهم أربعة ملايين داخل تركيا، يشكّلون معاً قرابة 8 ملايين سوريّ، وإذا ما تم تتريكهم لغويّاً وثقافيّاً وإداريّاً، فإنّ نحو ثُلث سوريا سيرتبط موضوعيّاً بتركيا وسياساتها وخياراتها المستقبليّة”.
حزام تركمانيّ
تستخدم تركيا الأقلية التركمانيّة في سوريا لتنفيذ خططها، ففي كانون الأول 2012، تأسست جمعية التركمان السوريّة في إسطنبول بهدف إنشاء هيكلٍ تنظيميّ لهم، وفي آذار 2013، غيّرت اسمها إلى “مجلس تركمان سوريا” خلال اجتماع حضره وزير الخارجية التركيّ السابق أحمد داود أوغلو، الذي شدّد على أنَّ بلاده “ستستمر بالوقوف إلى جانب التركمان السوريين، تحت أيّ ظرفٍ”، وفي تشرين الثاني 2018، نظّمَ المجلس، برعاية أنقرة، “مؤتمر الأمة” في بلدة الراعي، تبنّى خلاله عَلَماً يشير إلى أنَّ الشعب التركمانيّ لديه رمزٌ خاصٌ، ويجب اعتباره أمة، ونقل المجلس مقره إلى سوريا في تموز 2019، واللافت هو المبالغة بتعداد التركمان في سوريا، في ظلِّ غياب إحصاءات رسميّة، ويُروّج لرقم 1,5 مليون على الأقل، ويُعتقد أنّ تحريض البعد القوميّ يتصلُ بحركةِ “الذئاب الرماديّة” المُتطرفة.
استدرجت أنقرة مصادر تمويلِ إخوانيّة ممثلة بجمعياتٍ ترفعُ شعاراتٍ دينيّةٍ خيريّةٍ لبناءِ المجمعاتِ الاستيطانيّةِ، وعبر التمويل القطريّ والكويتيّ، بنَت تركيا بلدات وقرى في مواقع عدة من المنطقة، بذريعة إيواء النازحين السوريين، والمسألة ليست محصورة في منطقة عفرين، فقد سبق أن أُنشأت مجمعات سكنيّة بدعمٍ خليجيّ وباكستانيّ وألمانيّ وأوروبيّ في إدلب وإعزاز والباب، غير أنّ ما يحدث في عفرين، أكثر خطورة، إذ ينطوي على تغييرات أعمق ديمغرافيّة وثقافيّة، والقرى التي تُشرف تركيا على تشييدها، وتحديداً في الشريط الحدوديّ، ستُمنَح غالبيتها للعوائل التركمانيّة التي تحمل الجنسيتين السوريّة والتركيّة، لإنشاء حزامٍ تركمانيّ على طول الحدود مع سوريا، كون التركمان وفق ما أكده مركز مالكوم كير كارينغي للشرق الأوسط هم “المستوطنون الأقدر على تعزيز الوجود العثمانيّ في المناطق الحدوديّة السوريّة”.
بمراجعة خارطة توزع هذه القرى وموقعها بالنسبة إلى الحدود مع تركيا، يتبين أنّها تبعد عن الحدود مع تركيا بين 4 – 9 كم، وتتوزع من أقصى شمال جنوب غرب مدينة عفرين إلى أقصى شمال شرقها، على شكل هلال يمتد على طول حدود منطقة عفرين مع ولايتي كلس وهاتاي (اسكندرون).
استيلاء ومجمعات استيطان
الاستيلاء على منازل المدنيين من قبل الفصائل تمت شرعنته بفتوى من قبل ما يسمّى “المجلس الإسلاميّ السوريّ” اعتبر فيها أنّ الأملاكَ التي تعودُ لوحدات حماية الشعب في عفرين، تندرجُ ضمن الأموال العامة، كان ذلك أولى خطوات توطين المستقدمين من ريف دمشق، والغوطة الشرقيّة.
ولإيجاد مقومات الاستقرار بالمنطقة، وفرض واقع الاحتلال، شرعت الدولة التركية ببناء العديد من المشاريع السكنيّة في عموم المنطقة، ففي قرية مريمين” شرق مدينة عفرين، شُيّدت قرية “القرية الشامية”، وفي “بافلون” الإيزيديّة، أنشأت “مخيم التعاون” لتوطين نحو 70 عائلة من ريف حلب والغوطة، ودعمهم ماديّاً لها، وبناء مسجد فيها.
كما شُيِّدت ثلاثة مجمعاتٍ استيطانيّة بناحية شيه/شيخ الحديد، في قرى (أرندة- سهل قرية سنارة- سهل شاديا) أي على طولِ الحدودِ، حتى ناحية راجو، إلى جانب بناء مجمعاتٍ سكنية في كل من (أفرازة وحج حسنة) بعد تجريف أشجار الزيتون، وبُني مجمع سكنيّ في قرية “باصلحايا” جنوب عفرين.
وفي قرى “شيراوا”، وتحديداً في (دير مشمش وخالتا)، شُيِّدت قرية حملت اسم قرية (كويت الرحمة) بالتعاون مع جمعيات إخوانيّة كويتية، كما أُنشِئت مجمعاتٌ سكنيّة في ميدان إكبس. ومجمع “بسمة” الاستيطانيّ قرب كالي نواله بقرية شاديرة ذات الغالبية الإيزيدية بناحية شيراوا.
وأقامت الدولة التركيّة مخيمات عدة على الحدود التركيّة السوريّة “بلبل، قرية سوركة بناحية راجو، قريتي المحمدية ودير بلوط بناحية جنديرس، وبدأتِ العمل على إنشاء مجمع استيطانيّ، على أطراف قرية ترنده التابعة لمركز عفرين وصولاً إلى أطراف كرزيلية على سفح جبل ليلون، إضافة لمخيمات في كفرجنة ومشعلة وآفرازة وحي الأشرفية بمدينة عفرين.
وتقوم منظمة “إحسان للإغاثة والتنمية التركيّة” ببناءِ مستوطنة شمال غرب مدينة جنديرس، ويُقام مشروعُ المستوطنة على أرضٍ في جبل شيخ محمد، وهو امتداد لجبل قازقلي حيث كانت تُقام احتفالات عيد النوروز قبل الاحتلال، بين قريتي كفر صفرة وتاتارا، تماماً ما بين مزار الشهيد سيدو، وسفح جبل قازقلي، فيما يتم إنشاء مستوطنة أخرى في قريةِ حج حسنه، شمال مدينة جنديرس، وتمّ قلع عشراتِ الأشجار، وتسوية الأرض، والبدء بأعمالِ البناء.
فاستولى المستوطنون على أرضٍ تبلغ مساحتها قرابة 13 هكتاراً وتُدعى گۆلا جلمه، قرب نبع مرجانة، كانت مرعى للمواشي، وملعباً رياضيّاً وبدأت الأعمال التمهيدية لبناء مستوطنة عليها، لكنّ اجتماع سكان القرية على رفض المشروع، والاحتجاج عليه أدّى لإيقافه.
أعلنت منظمة Syria Relief الخيرية البريطانية بالتعاون مع جمعية “عطاء” السوريّة، عن بناء مدينة لإيواء النازحين في شمال غربي سوريا وحمايتهم من الموتِ، جرّاء ظروف الشتاء القاسي، وفي 23/12/2021 نقلت صحيفة “انديبندنت” البريطانيّة عن رئيس المنظمة تشارلز لولي قوله: “الهدف من إنشاءِ المدينة، بناء مجتمع يلبّي احتياجات السوريين التعليميّة والصحيّة، وقالت الصحيفة إنَّ المنظمة لن تكشف عن موقع المدينة لأسباب أمنيّة، مضيفةً أنّها ستكون قريبة من الحدودِ التركيّة السوريّة.
ويمكن وصف هذه المجمعات بـ “المستوطنات” وهي تُشكّل خطورة على مستقبل سوريا عامة، وليس على عفرين فقط، إذ تُهدّد وحدة الأراضي السوريّة، بتهيئة الظروف لضمِّ الشمال السوري، وبخاصة عفرين إلى الأراضي التركيّة، في تكرار لسيناريو لواء إسكندرون.