القرصنة السياسية

فيروشاه أحمد –

باتت القرصنة كمفهوم حديث أكثر قتامة وسوداوية من المفاهيم الاعتيادية التي كانت سائدة من قِبل القراصنة في البحار والمحيطات، وهي بكل أحوالها مهنة قديمة ترجع لعصر الفراعنة، ونشطت هذه الآفة في العصور الوسطى، حيث كان السلب والنهب والقتل والأسر من أعمال هؤلاء، حتى أنهم أسروا يوليوس قيصر عام (75) قبل الميلاد ولم يتم الإفراج عنه ألا بكمية كبيرة من الذهب، وفي العصور الحديثة اشتدت القرصنة بالرغم من وجود خفر السواحل ووجود قواعد عسكرية للدول العظمى.

تعتبر القرصنة عملاً لا أخلاقياً وعدواناً وجرائم ضد السفن والمسافرين والبضائع، وبالرغم من التقدم الحضاري والتكنولوجي ووجود منظمات ومحاكم  وقوانين دولية، ألا أنها ما زالت تطل هنا وهناك، وتثير الرعب والخوف ويمارسون القتل والسلب، وإذا ما حاولنا أن نقارن القرصنة وأخلاقياتها مع السياسة والساسة في العالم لربما لا نجد أي فارق بينهما لا من حيث المبدأ ولا من حيث الأخلاق، فالقرصنة السياسية هي أشد قسوة وقوة في القتل والسلب والنهب، من حيث اعتمادها على أدوات وآليات في تنفيذ هذه القرصنة بحق الشعوب.

سوريا محيط لسفن القراصنة

من قواعد القرصنة السياسية التي لا تمت بصلة إلى احترام حق الشعوب في العيش الكريم، الحليف يقبل حليفه بكل حسناته وسيئاته وينسى أو يتناسى كل الخلافات التي كانت بينهما وينطلقون نحو تحقيق أجندات جديدة يتفقان عليها لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية.

ما جرى بين بوتين وأردوغان بعد سقوط الطائرة الحربية الروسية وحتى الآن أنما يؤكد بأن الطرفين يمارسان قرصنة سياسية بحق شعبيهما أولاً وبحق مكونات سوريا ثانياً، كانت كل الاحتمالات العسكرية واردة من قبل روسيا ضد القوات التركية، لكن بوتين المشبع بثقافة القراصنة تعامل مع حليفه (عدوه) بكل برودة الدب الروسي، حين وقّع معه اتفاقيات سياسية واقتصادية، ورسما معاً خارطة طريق جديدة لسوريا، فمن خلال لقاءات سوتشي وآستانة حاولا دائماً استجرار إيران لحلفهما.

فكانت النتيجة المزعومة تشكيل الدول الضامنة  لحماية ووحدة الأرض السورية، وما زال بوتين يؤكد لشركائه (القراصنة) بحسن نواياه (الخبيثة)، وتجلت هذه النوايا بمساعدة موسكو للجيش التركي باجتياح واحتلال عفرين، وبكل قواعد القرصنة اللاأخلاقية حولا تناقضاتهما السياسية والعسكرية إلى سوريا ويكيلون لشعبها كل أشكال العنف والقتل والسلب والنهب، ويعيثون في أرضها الخراب والدمار.

لم يكن في يوماً ما للقراصنة مبادئ إنسانية وأخلاقيات مجتمعية، بقدر ما كانوا يعتمدون على البطش بكل فريسة (سفينة) في عرض البحار، وربما نقرأ لبعض رجالات القراصنة سلوكيات قريبة من أخلاقيات الفرسان النبلاء، لكن حين نتابع الخط البياني لسياسات أردوغان منذ تسلمه دفة القيادة في تركيا نجد بأن هذا الخط البياني يتجه نحو الهبوط والانكسار، كون أردوغان شريك مع أسوء عدويين لتركيا تاريخياً (روسيا ـ إيران) اللتين تختلفان معها في كل المقومات اللغوية والمذهبية والطائفية.

تعمل تركيا في الضفة الغربية من علاقاتها بأجندات مختلفة، فهي تتجه نحو أوروبا بثقافة العلمانية التي سرقتها الجمهورية (1923) من فتات قراصنة الرأسمالية، وحين عبرت تركيا المحيط الأطلسي وسلمت أوراق عبوديتها لواشنطن التي كانت تتزعم الإمبريالية العالمية، ولم تكن تدري بأنها سوف تصبح حارساً أميناً للاستراتيجية الأمريكية أمام التمدد الشيوعي، مقابل ذلك رسمت لتركيا أحلاماً وردية حين سخرتها كقوة بشرية وعسكرية في حلف الناتو، ودغدغت جنبات شعب تركيا بالانضمام  للاتحاد الأوروبي، من هذا المنطلق كانت تركيا تحاول دائماً أن تطرح قرصنتها في بحار الآخرين لكنها لم تدرك أبداً بأن قراصنة العالم لا ينامون.

تركيا وما بعد القرصنة!

لم تركن تركيا للقرصنة في عداوتها مع شمال وشرق سوريا فحسب؛ بل تعمل وبكل ما أوتيت من خبث سياسي ورعونة عسكرية، بالسمسرة مع كل القوى الخارجية والفصائل المرتزقة لإفشال المشروع الديمقراطي الذي تعمل عليه مكونات هذه المنطقة، وتخلق أجواء واهية باجتياح هذه المنطقة بحجة الحفاظ على أمن تركيا القومي، وتعد العدة لمقاتلة قوات سوريا الديمقراطية التي ساهمت مع التحالف بمحاربة الإرهاب وطرد داعش من كل المنطقة.

ولم تتوانى  بالتقليل من حربها الخاصة من خلال وسائل إعلامها المتنوعة، والاعتماد على (الطابور الخامس) ببث ثقافة الخوف بين شعوب هذه المنطقة، بل كثفت في الفترة الأخيرة من خطابها العدواني باجتياح شمال وشرق سوريا، لكن وكي ندرك الحقيقة كاملة يجب أن نعلم ماذا يجري في هذه المنطقة، وكيف تتطور العلاقات بين مكوناتها من خلال إدارتهم للمنطقة، من خلال مشاركة كافة المكونات في صنع القرار السياسي والاقتصادي والمجتمعي، بالإضافة إلى ذلك كان لتشكيل قوات سوريا الديمقراطي الأثر العظيم بالدفاع عن كل مكتسبات هذه الثورة، بذات السياق يعمل مجلس سوريا الديمقراطي وبكل دبلوماسية مجتمعية في داخل المنطقة وخارجها على تمتين العلاقات بين مكونات المنطقة وتعزيز علاقات الإدارة الذاتية الديمقراطية مع الشعوب المجاورة والدول الأخرى، ومن جانب أخر تتابع الحوار السوري السوري مع الحكومة  كي يتوصلا معاً إلى حل سياسي وديمقراطي.

حين قرأت تركيا هذه الخطوات الجادة في بناء الإنسان الحر في شمال وشرق سوريا من خلال فلسفة مجتمعية تتناسب وتطلعات كل المكونات، لم تستطع أن تتقبل هذا المشهد الديمقراطي، لهذا سارعت إلى التقليل من قيمة هذا المشروع بل وإفشاله من خلال سمسرة سياسية (مقايضة) مع موسكو ودمشق بأنهاء القتال في وسط وجنوب سوريا من خلال مقايضات سياسية وصمت المجتمع الدولي، فكانت نتائج هذه التسويات أن تكفل أردوغان بجلب هؤلاء الفصائل المسلحة وعوائلهم وتوطينهم في عفرين والبلدات المجاورة لها، بعد طرد سكانها الأصليين من بيوتهم.

آليات المقاومة مستمرة:

أمام هذا الكم الهائل من العدوان التركي ومرتزقته على مكونات شمال وشرق سوريا، ما زالت الطورانية التركية تعمل على بث التهديدات المستمرة واليومية بحق هذا المشروع الديمقراطي، ربما يتساءل البعض لماذا أردوغان يفعل ما يفعله الآن؟ وكقراءة بسيطة للخارطة السياسية والعسكرية في سوريا وتحديداً فيما تقدمه قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي بدك المعاقل الأخيرة لداعش في (هجين) والاقتراب من الانتصار النهائي على هذه القوى الظلامية ما هي ألا دفاعاً مستميتاً عن هذه الفصائل الإرهابية المسلحة. وهذا ما فعله أردوغان حين أجلَ معركة إدلب حتى يحافظ على فصائله المرتزقة وتهيئتهم لعمل عسكري آخر.

ومن أولى القواعد والمبادئ التي تعتمد عليها الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطي هو الاعتماد على الذات ضد أي خرق تركي للأرض السورية، ولن تقف شعوب المنطقة مكتوفة اليدين لأي عدوان تركي غاشم، ولا يمكن إغفال أمراً مهماً وهو أن أردوغان ومن خلال تهديداته أنما يصدر أزماته السياسية والاقتصادية خارج حدود بلاده وبعناوين مستعارة ومستهلكة مثل “الأمن القومي التركي في خطر” ويدرك أردوغان وحده بأنه يخسر في كل يوم أوراق مساوماته ومقايضاته، ولم يبقَ لديه ألا القرصنة.

قرصنة تركيا…مهزومة

حتمية هزيمة تركيا في عدوانها على مكونات شمال وشرق سوريا لها أسباب موضوعية وتاريخية وأخلاقية، قد يشعر الغازي بنشوة الهيمنة فترة  ما من خلال اعتماده على أدوات بدائية في إمحاء تاريخ الشعوب، وربما يعمل كالقراصنة على استغلال الحالة الموضوعية للواقع السياسي في سوريا والمنطقة والعالم.

لقد اعتمدت تركيا خلال هذه الفترة على الأعداء قبل الأصدقاء في تدخلها في الأزمة السورية، وحاولت أن تعقد علاقات سياسية واقتصادية خاسرة بشرط أن تنهي المشروع الديمقراطي في شمال وشرقي سوريا، لكن ومن الواضح بأن أردوغان لم يقرأ التاريخ بشكله الصحيح، ولم يتعظ بغيره من الغزاة، ولم يدرك تماماً بأن مكونات المنطقة استوعبوا سياساته البراغماتية والوصولية، وما جرى في إدلب كان صفعة سياسية في وجه قرصنته المترهلة.

هذه المكونات التي تتشارك في الإدارة والدفاع الذاتي عن المنطقة لا يمكن أن تستسلم للحرب الإعلامية التي تفتعلها تركيا من خلال وسائل إعلامها المتعددة، وهي أي تركيا تعتمد على مرتزقة في داخل وخارج خارطتها الجغرافية، فالتجربة العملية لهذه الإدارة خلال هذه السنين أكسبتها ذهنية جديدة يمكن من خلالها قراءة كل أجندات تركيا، وبذات السياق تعمل أغلب وسائل الإعلام في تركيا وخارجها على الاصطياد في الماء العكر كي تقرأ ردود أفعال الإدارة، بالمقابل تعمل وسائل الإعلام في شمال وشرقي سوريا على فضح وتوصيف أعلام الأتراك بأنه عدوان لا أخلاقي يُراد منه زعزعة الحالة النفسية والاجتماعية لمكونات المنطقة.

فحين يستغل أردوغان مشاعر القومويين الأتراك بالتعاطف معه ومساندة عدوانه  وتصدير أزماته إلى خارج أنقرة، أنما يريد أن يحظى بأصوات إضافية في الانتخابات القادمة، والشي الأهم هو تأجيل معركة إدلب والهروب من الوفاء بتعهداته لروسيا وغيرها من الدول، وليس بخافٍ على أحد بأن هذه الحرب الإعلامية المسعورة التي يفتعلها أردوغان أتت بعد أن ضاقت الأرض بما رحبت بربيبته داعش.

بالمحصلة لا يمكن لأردوغان أن يفتعل ويفعل شيئاً في المنطقة لأن المصالح المشتركة التي اجتمعت عليها مكونات المنطقة والإيمان بها  أقوى من كل القرصنة التي يعمل عليها، من جانب آخر تبقى قوات سوريا الديمقراطية قوة حقيقة على الأرض ضمن التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، وكل سياسات وأجندات تركيا وأردوغان مرتبطة باستمرار الإرهاب، لهذا كله سوف تغرق كل القرصنة التركية في بحر مكونات شمال وشرق سوريا.