سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

العامل التركي في كارثة شمال سوريا

علي صادق ـ صحيفة العرب –

لا يجهل أردوغان، حقائق القوة ومعطياتها على الأرض، وبالتالي كانت هذه الحقائق والمعطيات، أجدر بأن يعتمد دبلوماسية البحث عن اتفاق، بدل أن يجلب الأمريكيين، لكي يُنشئ معهم ما تسمى (بالمنطقة الآمنة) في شمال سوريا، فتح سقوط مدينة خان شيخون السورية، الباب واسعاً، لمحاولة فك ألغاز الحرب الجارية منذ خمسة أشهر، بين النظام الذي يريد استكمال السيطرة على كل أراضي البلاد واستعادتها، ومن جهة أخرى، المجموعات المسلحة التي أصرت على الاحتفاظ بالأراضي، بمساعدة تركيا الأردوغانية.
الألغاز هنا، تتعلق بحسابات الجانب التركي الذي أخطأ فيها كلها ولم يُصب في أيٍ منها، وبالتالي كان سبباً من أسباب الكارثة التي أصابت السكان المدنيين في شمال سوريا، معطوفاً على منهجية الحل العسكري التدميري، مهما كان ثمنه، لدى الروس والنظام والميليشيات الإيرانية المساندة له. فما طال المواطنين من سكان منطقة العمليات، في ريف إدلب، على ضيق مساحتها واكتظاظها بأربعة ملايين مدني مع صمت العالم الذي يلامس تأييد حرب الإبادة؛ طال سكان ريف حماة الشمالي أيضاً.
لعل أخطر وآخر أخطاء الأتراك، كان ذلك الاتفاق الذي توصلوا إليه مع الأمريكيين، لإنشاء شريط جغرافي تحت سيطرة الطرفين، والإعلان عن نيتهم إعادة إسكان جزء من اللاجئين السوريين فيه، في محاولة للتعمية على المقاصد الحقيقية لهذا المنحى. قبلها، توصل الأتراك مع الروس، إلى “اتفاق سوتشي” وهو اتفاق لا معنى له، وأُبرم بزعم إنشاء منطقة “منخفضة التوتر” وكان من شأنه، في الحقيقة، تثبيت وضعية المواجهة وإتاحة الفرصة للقوى المتحاربة لالتقاط الأنفاس وتعزيز خطوطها، استعدادا للعودة إلى القتال.
فعندما أنست أنقرة في نفسها القدرة على التفاهم مع الروس، لم تذهب في الاتجاه الصحيح، لإقناع الروس بالعمل على تحقيق تسوية لمشكلة البؤر العسكرية المعارضة، المختلطة بالسكان المدنيين، فقد كان كل همها، الحفاظ على ما تبقى مما تسمى بالجيش الحر، دون أن تكلف نفسها عناء إجراء تقييم موضوعي للوضع في مسرح الحرب، لكي يلائم خيارها الهدف الأسمى المفترض، وهو حماية المدنيين ومنع المقتلة. فأردوغان يعرف، أن الروس يعتبرون كل من يقاتل النظام بالسلاح إرهابياً، ويعرف أيضاً أن المدرسة العسكرية الروسية، مثلما هي معروفة في التاريخ العسكري، تعتمد عنصر النار الكثيفة التي يرسلونها دون تمييز، ثم الاجتياح بعدها، كذلك هو يعرف أن الدافع إلى القصف بكثافة ودون هوادة، من الجو، موجود لدى الروس والنظام، بلا واعز يمنعه أو يخفف منه.
ولا يجهل أردوغان، حقائق القوة ومعطياتها على الأرض، وبالتالي كانت هذه الحقائق والمعطيات، أجدر بأن يعتمد دبلوماسية البحث عن اتفاق، بدل أن يجلب الأمريكيين، لكي يُنشئ معهم ما تسمى بـ (منطقة آمنة) في شمال سوريا، فيؤجج غضب الإيرانيين والروس، الذين تتشابه مقاصدهم، وأهمها الحصول على تعويض لتكاليف الانخراط في الحرب، من الثروات السورية الواعدة، التي لا تزال في باطن الأرض، فموضوع هؤلاء هو مسألة حياة أو موت، وهؤلاء يتطيرون من الأمريكيين، وسيكون الخطأ في الحسابات، أخطر وأفدح، في ظروف التصعيد بين واشنطن وطهران.
كان اتفاق الخديعة في سوتشي، بين طرفين يريد كل منهما أن يلعب على الآخر، وقد أكد عليه الطرفان، في جولة “أستانة 13” المتعلقة بالصراع في سوريا، أن تُنشأ منطقة آمنة في محيط إدلب، تفصل بين مناطق النظام والمعارضة، بحدود تتراوح بين 15 و20 كيلومتراً، تخلو من السلاح الثقيل. ولإضفاء طابع الديمومة على هذا المشروع، جاء في الاتفاق، ما بشبه اعتزام الطرفين، استعادة طرق نقل الترانزيت عبر “خط أم 4″ (حلب ـ اللاذقية) و” خط أم 5″ (حلب ـ حماة) بحلول نهاية عام 2018، وتصرفت أنقرة، كمن صدّقت نفسها وصدقت الروس، بأنها ستكون شريكة في تأسيس وضع مستدام في سوريا تُستعاد فيها طرق الترانزيت، ولما اتضح أنها ستقبض الريح، جاءت بالأمريكيين لكي تتفق معهم على اقتطاع شريط جغرافي من شمالي سوريا.
لكن الأنكى أن أنقرة، تتجاهل محدودية القدرة القتالية، لدى من تواليها من المجموعات المرتزقة، وتكون بذلك قد أخطأت في حساباتها مرة أخرى، عندما اعتبرت ما يُسمى “هيئة تحرير الشام”، وهي “جبهة النصرة” سابقا، وما تسمى “غرفة عمليات الفتح المُبين” ستفيدها، ويمكن أن تصبح رديفاً لها، وفي هذه الحسبة تغاضت عن كون جميع الأطراف المتنفذة والمتفرجة، لن يرق قلبها حين تتلقى هذه المجموعات حمما من النار، بل لن يتدخل العالم ولن يستنكر، إن طالت الحمم الأبرياء من السكان. فلم يتردد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في الاعتراف للمرة الأولى، بوجود القوات الروسية على مشارف إدلب، داخل ما يسمى منطقة خفض التصعيد، وقال في مؤتمر صحافي، إنه على اتصال مع الأتراك “وإذا واصل الإرهابيون هجماتهم على الجيش السوري وقاعدة حميميم، سيواجهون رداً حازماً وقاسياً”، ثم حسم الأمر الرئيس فلاديمير بوتين نفسه، عندما قال في مناسبة أخرى، كمن يوجه حديثه إلى الأتراك “لم نقل أبداً إن الإرهابيين في إدلب سيشعرون بالراحة”.
في هذا السياق، سُمعت تصريحات تركية، من نوع الجعجعة بلا طحن، فوزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، يوجه حديثه للنظام السوري ويتحاشى الروس فيقول: “على النظام السوري ألا يلعب بالنار”، وفي تلك الأثناء، كانت قوات النظام السوري التي تساندها القوة الجوية الروسية بغطاء ناري كثيف، تقضم مناطق المعارضة، الواحدة تلو الأخرى، في ريفيْ حلب وإدلب، بأسلوب تسميه العسكرية الروسية “دبيب النمل”، ويعتمد تكتيك الأرض المحروقة. في هذا السياق، استمرت الحملة الدموية، وحققت اختراقها وسيطرت على مدينة خان شيخون الاستراتيجية، ليصبح سقف الأمنيات التركية، إنقاذ نقاط المراقبة التي نشرتها، واندثر بعضها، مثلما اندثرت معظم الأوهام وأصبح ما تبقى منها في طريقه إلى الاندثار، ولعل هذا هو حصاد وجزاء من يراهن على الروس والأمريكيين، ويستقرئ الحسابات الخاطئة.