سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

الطّفولةُ السُّوريَّةُ في براثنِ العنفِ المُباحِ

لمى الأتاسي  (ناشطةٌ حقوقيّةٌ سوريّةٌ)-

لمراحل طويلة من التاريخ البشريّ, وفي كلّ مكان, كان العنف مُباحاً تجاه الطفل، بل كان يُعَدّ من أساليب التربية.
وفيما يخصّ تاريخ مناهج تربية الأولاد, سواء في البيوت, أو المدارس, فما زال الموضوع لا يحظى بعد بالقدر الوافي من الدراسات في سوريا, والشرق الأوسط عموماً, بينما تتعامل الدول المتحضّرة بجديّة مع الموضوع، معطية لكرامة الطفل القدر الوافي من الحماية, وملزمة الأهل بواجباتهم الأساسيّة, بهذا المقياس الحضاري المتعلّق برعاية الطفل، تُصَنَّف دول العالم الثالث بالمهملة, لنشأة أبنائها, ومسجلة بهذا؛ أحد أهم الفوارق الحضارية بينها والدول المتحضرة.
ومع ظهور أول مراحل الوعيّ البشريّ, لمفهوم حقوق الإنسان في إنجلترا وفرنسا في القرن الثامن عشر، بدأ بعض المفكّرين, طرح فكرة نبذ العنف عموماً, وانتقاد أساليب العقاب الجسدي في السّجون, والمدارس, والمنازل, ومنذ عام ١٨٢٥ ظهر في الولايات المتحدة تيارٌ قويٌّ, نادى بحماية الأطفال من عنف الأهل آنذاك، وتمّ إنشاء بيت, يلجأ له الأطفال الناجون من عنف آبائهم, وفي الوقت ذاته تقريباً في فرنسا، أجرى الدكتور أمبرواز, إستاذ الطبّ الشرعيّ في جامعة باريس, أبحاثاً عن حالات العنف المبرح, والحرق لأطفال من قبل آبائهم، حالات تشبه ما نراه في الصحف السورية اليوم, وعبر شبكات التواصل, عن أطفال مقتولين, أو معذبين, راحوا ضحايا عنف الآباء.
هذا الوعي لدى النخبة الغربية, أدّى لظهور تيار قويّ في الغرب؛ ينادي بحقوق الطفل، وتزامن هذا مع ظهور أوّل كتاب في فرنسا يتناول القضية، بعنوان “الطفولة في باريس”, الكاتب كان قاضياً, وتضمّن هذا الكتاب سرد حوادث, وإعطاء مقترحات للمشرّعين؛ لسنّ قوانين صارمة تعاقب, وتنزع حقّ الأبوّة عن الأهل, الذين يسيئون معاملة أولادهم, المنطلق العميق يؤكّد فكرة, أنّ الأبوّة ليست حقاً بيولوجياً مكتسباً على حياة الطفل، والشعور العاطفي بالرحمة ليس بالضرورة, ناتجاً عن عملية الإنجاب.
بالتالي لا بدّ من ربط حقّ الأبوّة بمسؤوليّات وواجبات كثيرة، ولا بدّ من أن يكون هناك حقّ للدولة (المجتمع), بانتزاع الأولاد من الأهل في حال تجاوز الآباء حدودهم الإنسانية, وعذَّبوا الأطفال جسدياً أو معنوياً أو أهملوه, حالات عمل الأطفال, وحالات دعارة الأطفال, كتزويج الطفلات, التي نراها في شوارع لبنان, ولا يتحدّث عنها أحد، تُعدّ حالات إجرام بحقّ الطفولة, لم يتوقف الغرب عن التطوّر منذ القرن الثامن عشر, فيما يخصّ مكانة الطفل وحقوقه، بينما يبقى الطفل في دول الشرق مهملاً لأبعد الحدود، تارة يُجَنَّد, و تارة يُبَاع, ويُضرَب ويُهان دون مراقبٍ أو حامٍ.
وفي عام ١٩٨٠ أصدرت السيدة بادارنتير، وهي زوجة وزير العدل الفرنسي السابق, الذي ألغى حكم الإعدام، كتاباً، أحدث ضجّة حينها, اسمه “الحب الإضافي” أو الحبّ بالإضافة” يعني ليس بالولادة. وتثبت السيدة إليزابيث بادانتير من خلاله, أنّ شعور الأمومة ليس غريزة لدى الأمّ, وأنّ هذا الشعور, لا يولد بالضرورة لدى الأمّ مع ولادة ابنها، وكثير من الآباء لا يشعرون بالحنان الذي تصفه الروايات. وقد تبدو محقّة, فلو كانت هذه الغريزة موجودة عند الآباء بالدرجة ذاتها, لما قتل, أبو حلا ابنته الطفلة, ذات الأعوام الخمسة, بعد التعذيب في سوريا, وتحت إشراف زوجته .. ولما فرّغت بعض الأمهات غضبهنّ, بالضرب المبرِّح لأولادهنّ, أو بالكلام الجارح والإهانات.
الحياة الأسرية في بعض الأوساط في منتهى البعد عن الحضارة العصرية الإنسانية، وهذا يتزامن مع تخلّف تعامل الدولة مع المواطنين، فظروف الاعتقال السورية جديرة بالقرون الوسطى, من ناحية قذارتها, وسوء تعامل السجّانين ووحشيّتهم, فالدولة السورية تفتقر لوعي مفهوم الأبوّة وتحضّرها .
حادثة وفاة الطفلة, حلا, التي حصلت منذ أيام في ريف دمشق, يجب أن توقظ الضمائر، ولا بدّ من العمل؛ لتغيير منهج العنف الأسري في المجتمع السوري على تعدديتّه وتنوّعه، ومن الضروري أن يعمل الباحثون على معالجة أسباب العنف في المجتمع السوري بموضوعيّة,  وقبل البحث في أسباب الكارثة الاجتماعية السورية المنتشرة اليوم، يمكننا أن نقترح على كلّ الجهات التشريعية المتواجدة في كلّ مكان أو معسكر، سنَّ قانون, تحت اسم “حلا “، احتراماً لما عانته هذه الطفلة, وما يعانيه آلاف الأطفال من تعذيبٍ, ونكرانٍ, لحقوقهم كأبناء، والذين يقتلون دون أن تتدخّل أيّ جهةٍ لإنقاذهم.
لا بدّ من التفكير بسنِّ قانون جديد يمنع تكرار هكذا جرائم، قانون ينزع الأبوّة عن المجرمين, ويمنع إيذاء الأبناء, وضربهم, وإهانتهم، قانونٌ أيضاً يحمي الأولاد في حالات الطلاق؛ وبيت تنشئه الدولة, أو مؤسَّسات المجتمع المدني, يحمي الأطفال” ضحايا العنف”, هذا النوع من الجرائم بحقّ الأطفال, وصمة عار على سوريا، ونحن كلّنا مسؤولون بصمتنا، لأننا لم نناضل لمنع حدوثها وتكرارها، وكم من” حلا” تموت كلّ يوم في المجتمعات السورية كافّة، وكم من حلا تُقتل نفسياً, رغم أن أجسادهنّ تتحرك. الحادثة تبدو مكرّرة بحقّ بنات, وأبناء المطلّقين في سوريا، ولا سيّما لدى الطبقات الفقيرة . العرف الاجتماعي السوري في غياب القانون, لا يردع سوء معاملة الأهل لأبنائهم, ولا العنف المُمارَس ضدّهم, تحت مسمّى تربية، هذا العرف يسري مفعوله بشكل قطعي, ولا يجرؤ أن يعانده أي طرف .
التقاليد لدى فقراء الطوائف والمكوّنات كلّها, تنصّ على أن الشابّة في حال تطلّقت, ولديها أبناء وبنات يجب أن تتركهم لوالدهم .. وترحل بمفردها إلى أهلها, الذين يعدّون طلاقها مشكلة تخصهم, وفيه خطر ما على شرف الأسرة. فيعيدون تزويجها أحياناً، و كثيراً ما يتمّ منعها من الخروج للعمل, والبحث عن استقلالية ما، لكون المطلّقة في الكثير من الأوساط مرفوضة, وتساء معاملتها, وتتعرّض لتحرّش, لا يجرؤ أحد على الحديث عنه.  ويصبح زوجها السابق عدوَّ الأسرة والأطفال معه، وهكذا المحيط بأسره, يتناسى حقَّ الأبناء, بوجودهم مع أمهم، ليقفوا ممنوعين من القرار، يترقّبون بحزن و حسرة .
وهكذا يؤدّي فشل الزواج في سوريا, لمعاقبة الأبناء دون ذنب، إمّا من والدهم الذي أصرّ على الحضانة؛ لتصفية حساباته مع والدتهم, أو من أهل الأمّ, الذين لضيق الحال, لا يقبلون عودة ابنتهم مع أولادها. كما أن فكرة عمل المطلقة واستقلالها مادياً؛ لتحمي أولادها شيء لا نراه إلاّ لدى الطبقة الغنية, أو المتعلّمة والمثقّفة, حقّ المرأة بالحضانة, أو حقّها بتحصيل نفقة شهرية من طليقها, أو حقّ الأم المطلقة, على الدولة بتأمين سكن مستقل, كما هو متوفّر في بعض الدول, وهذا الأمر غير مطروح قطّ في سوريا، بل غير قابل للنقاش, فمن جهة توجد أزمة سكن لم تواجه جدياً، كما لم تهتم الدولة بتنظيم الأسرة, ووضع حدّ للانفجار الديمغرافي .
هكذا تكون حالة الأسرة, و معها المجتمع عندما تكون الدولة مستقيلة من مهامها الاجتماعية, فلا تتواجد لديها أيّ استراتيجية بشأن تطوير الأسرة, نواة المجتمع. وحالياً لا أمل في سوريا في سن قانون, يحمي حقوق الطفل في حالات الطلاق، القانون والمجتمع متفقان؛ على أن تبقى المرأة السورية في وضعية ذليلة, وبالتالي أبناؤها ذليلون, والجميع متفق؛ على أن يخدم القانون غرائز الرجل, الذي يتاح له الزواج بتعدديّة, والإنجاب دون وعيّ .
ولا بدّ من الإشارة في هذا السياق, إلى أن واقع الصراع السياسي الحالي بين المكوّنات السورية، يحول دون وجود مناخ للتفكي, بتطوير القوانين السارية. لا أمل في الوقت الراهن للوصول إلى التوافق, على ميثاق العيش المشترك للمجتمع, ولا حتى على المبادئ, ما فوق الدستورية، تلك القيم العليا, التي تضمن الحدّ الأدنى من حقوق الفرد, وبالتالي فإنّ نقاشات السوريين كلّها حول الدستور منذ أعوام, ما زالت في مرحلة العصف الذهني, الذي يدور في حمام مقطوع المياه، لكونه لا يتابعه أحد من أفراد الشعب, المعنيين بالتعديلات الدستورية وبتطوير قانون الأسرة  ضمناً.