سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

الصوم.. مسيرة نحو الفصح واستقبال لقيامة المسيح

قامشلو/ دعاء يوسف ـ

استقبلت الكنائس المسيحية الصوم الكبير منذ أيام، لتبدأ رحلة تحرِّر الإنسان من سلطان غرائزه وقيود شهواته، ويتاح له أن ينطلق من سجن جسده، ويتحكم في مظاهر وحشيته الحيوانية، فتتهذب نفسه، وتتغذى روحه بالإيمان.
فترة الصيام هي فترة مقدسة لدى المسيح، وبالرّغم من كثرة الأصوام في المسيحيّة، إلاّ أنّ الصّوم الذي يسبق عيد قيامة السيّد المسيح عليه السلام، هو الأهم على الإطلاق، لما له من طقوس، وميزات حيث يُقدر من أربعين إلى خمسين يوماً من الصيام المتواصل، والذي يمتنع فيه الصائم عن كل بروتين حيواني كاللحوم، والأسماك والطيور، وكذلك كل منتج حيواني كالبيض، واللبن، والزبد، والجبن، والقشدة، وما شابه ذلك، ويكتفي بتناول الأطعمة المطهوة بالزيت، والخضروات.
بدأ الصيام يوم الأربعاء في الثاني من آذار حسب الطقس اللاتيني، أما حسب الطقس الشرقي بدأ يوم الاثنين في السابع من آذار، وتستمر فترة الصيام المسيحية، ما يقارب ستة أسابيع قبل عيد القيامة، والغرض من الصيام هو تنقية الروح، فأثناء الصيام يُكثِر المسيحيون من الصلاة، وقراءة الكتاب المقدس، والصدقة وممارسة أعمال الرحمة، فتكون فترة لإعداد المؤمن للتوبة من الذنوب والخطايا.
يطلق على اليوم الأول من الصيام يوم الرماد، لقيام بعض الطوائف المسيحية، بما في ذلك الروم، والكاثوليك والأنجليكان، واللوثريون، والميثوديون بنثر الرماد على جبين المصلين، على شكل صليب، يستذكرون فيها الموتى، وأصل الإنسان الذي هو من التراب وإلى التراب يعود.

طقوس وصلوات
فكان لصحيفتنا لقاء مع السريانية جورجيت برصومو، التي حدثتنا عن الصوم الكبير: “إن الصوم يكون سبعة وأربعين يوماً، ولكنها تختلف حسب الطوائف، فالكاثوليك يصومون أربعين يوما، تليها أسبوع الآلام، بما فيه سبت النور، وبالإضافة لأربع أيام، تعوض عن أيام الأحد، التي يتم فيها الإفطار في بعض كنائس الكاثوليك”.
وتابعت جورجيت: “أما الصيام لدى الكنيسة القبطية خمس وخمسين يوماً، تقسم إلى ثلاث أقسام، وهي أسبوع الاستعداد، والأربعون يومًا المقدسة، التي صامها السيد المسيح صومًا انقطاعيًآ، وأسبوع الآلام”.
وتقوم الكنائس بصلوات خاصة كل يوم من أيام الصوم، فيمتنع المؤمن عن الطعام والشراب لبعد صلاة الصبح والتي تكون في الحادية عشر صباحاً، ومنهم من يستمر حتى الساعة الرابعة، ولا يحتوي الإفطار على مشتقات الحيوان.
إلى جانب الصلوات، والانقطاع عن الطعام، تقام رتب وطقوس خاصة في الكنائس الكاثوليكية، بمناسبة الصوم الكبير ومنها رتبة درب الصليب، واطلعتنا جورجيت على  هذه الرتبة: “رتبة درب الصليب تبدأ أول جمعة من درب الصيام، وتنتهي قبل جمعة الآلام، وهذا الطقس يقام في داخل الكنيسة، أو في الشوارع، حيث تقرأ نصوص خاصة بصلب السيد المسيح، وتقسم  إلى أربع عشرة مرحلة، وهذه المراحل هي التي مر فيها السيد المسيح خلال فترة القبض عليه، وصلبه حتى موته، وأول مرحلة تبدأ بتهمته، وتمر الآلام حتى صلب ودفن، وتُقرأ صلوات الأبانا وصلوات روحية، وتأملية متشابهة في أغلب الطقوس”.

ثمانية آحاد
ويتألف «الصوم الكبير» من ثمانية آحاد، لكل منها مسمى سميت على اسم معجزة قام فيها السيد المسيح: فيبدأ الصوم بـأحد الكنوز أو ما يعرف بهداية المؤمن إلى ملكوت الله، حيث تسعى الكنيسة لتوجيه أبنائها لعبادة الله، من خلال قول السيّد المسيح ((لا تعبدوا إلهين… الله والمال))، ليتحقّق قول المسيح: إن كنوزهم في السماء، لا على الأرض، وفيه يوفر المسيح أمثلة كثيرة على القناعة، والرضا بالقليل والاكتفاء بالموجود إذ ينصح فيه المسيح: ((لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ، حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ، بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ)).
أما أحد التجربة، فهو تذكار محاولة إبليس تجربة، أو إغواء السيد المسيح في البرية خلال فترة صيامه أربعين يوما، وتعرف فيه الكنيسة المؤمن كيف يتجاوز تجارب إبليس، ويحاربه، ولا ينصاع لإغراءاته وإملاءاته وشهواته، فينتصر عليه متخذاً السيّد المسيح قدوةً له حينما تعرّض للإغواء لثلاث مرّات من قبل الشرّ، عندما أغواه في المأكل وكان صائماً، وأغواه بامتلاكه المعمورة كلّها في حال قبوله بالسجود له، كما طالبه أن يطرح نفسه من أعلى الجبل طالما أنّ الله ينجيه.
ويليها أحد الابن الضال، فتعلّم الكنيسة المؤمنين أن مثال الابن الضّال، الذي خاطبهم به السيّد المسيح خير دليل على مسامحة الله للخاطئين التائبين، وقبوله لهم من جديد، فعندما عاد الابن الضال إلى أبيه بعد توبته، ومنه تكون التوبة هي أساس الإيمان.
والأحد الرابع هو السامرية ويسمى أحد الارتواء بالإنجيل والخاص بمعجزة كشف السيد المسيح عن خطيئة المرأة السامرية، ومسامحته لها.
والأحد الخامس هو أحد المخلع، وتبرز فيك الكنيسة قوة كلمة الله مثلما تدعو إلى ضرورة التمسك بنصوص الإنجيل، فهي باستطاعتها أن تهزم القوى الإبليسية، وسمي بأحد المخلع انطلاقاً من أعجوبة شفاء السيّد المسيح للمخلّع، الذي أقعدته الخطيئة، كونها هي السّبب الرئيسي في الأمراض الرّوحيّة منها والجسديّة.
ويأتي بعده أحد التناصير ويسمى أحد الاستنارة في الإنجيل، وهذا الأسبوع هو تأكيد على أنّ المعموديّة لا بدّ منها لأنها الاستنارة الحقيقيّة، والولادة الثّانية بالرّوح للمؤمن، وانطلاقاً من المعجزة التي قام بها السيّد المسيح بشفاء أعمى أريحا حيث أعاد له البصر، لذلك سمي بأحد الاستنارة أي الاستنارة بكلمة الله.
أما أحد السعف، أو الشعانين ويدخل من ضمن أسبوع الآلام، وهذا اليوم تذكير للمؤمنين بيوم دخول السيّد المسيح إلى أورشليم باحتفال شعبي على ظهر أتان، قبل أن يعاين الآلام والصّلب والموت، ليقوم ممجداً فجر يوم الأحد الجديد الذي يعرف بأحد الفصح المجيد.
وآخر الأحاد هو أحد القيامة، ويأتي في نهاية الصوم، والاحتفال بذكرى قيامة السيد المسيح، والانتصار على الخطيئة وفداء الجنس البشري، وفقاً للعقيدة المسيحية.
أسبوع الآلام
وبعد انتهاء الصوم الأربعيني يأتي أسبوع الآلام، حيث تحتفل الكنائس بالشعانين، وتختتم الأسبوع بخميس الأسرار، الذي تحدثت عنه جورجيت: “جلس السيد المسيح مع تلاميذه الاثني عشر  في العشاء الأخير له، وجاء بخبز، ورفعه للسماء، وقال لهم: خذوا كلوا هذا هو جسدي، وأخذ كأس النبيذ، ورفعه، وصلى، وقال: خذوا اشربوا هذا هو دمي، الذي هو العهد الجديد، وخلال العشاء، قام يسوع وغسل أرجل تلاميذه، وقد انفرد إنجيل يوحنا بتفصيل ذلك الحدث، وأن السبب الذي دفعه للقيام بغسل أرجلهم، هو تقديم مثال بالتواضع وتبيان أهمية خدمة الآخرين، والمساواة بين جميع الناس، وقد فسّر لهم ذلك بالقول: ((ليس عبد أعظم من سيده، ولا رسول أعظم من مرسله، فإن كنتم قد عرفتم هذا فطوبى لكم إذا عملتم به))”.
وتم إلقاء القبض على السيد المسيح يوم الجمعة العظيمة، وعذب وحمل للصليب في طريق الآلام إلى مكان عرَفُ بِاسْمِ «الجُلْجُثَةَ،» أي مكان الجمجمة، وصلب، وفي جواره اثنين من اللصوص، وتم دفنه في مقبرة، ولهذا سميت الجمعة العظيمة، ونوهت جورجيت، أن الكنيسة تحتفل بالطقوس نفسها، حيث يُحمل الصليب مع الكاهن وخلفه التراتيل الحزينة، وتوزع أغصان الزيتون والأزهار مع شرب ماء مر.
وبعد الجمعة يأتي سبت النور، وهو يوم الاستعداد لقيام السيد المسيح الموجود في القبر، لكنه حي، وسيخرج لينقذ البشرية من الخطيئة الأولى، التي وقع فيها أدم وحواء، وأردفت جورجيت بهذا الخصوص: “حسب طقس الأرثوذكس في القدس يدخل الكاهن إلى قبره، ليخرج ومعه النور من القبر، والذي هو ضوء لا يحرق وليس له حرارة، ويتم نقله بين أبناء الشعب الذي يحمل الشموع، وتحتفل الكنائس في هذا اليوم بإشعال الشموع المزينة”.
ليأتي يوم الاحتفال بقيامة السيد المسيح، ويبدأ الاحتفال حسب الطقوس الغربية ليلاً، أما الشرقيون يبدؤون الاحتفال صباح عيد الفصح.