سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

السليقة موروث شعبي عريق

تقرير/ غزال العمر –

روناهي/ جل آغاـ حين ترى الريفيين مجتمعين والنار يتصاعد دخانها من كلِّ حدبٍ وصوب، والصغار مجتمعين حولها يحملون الصحون وينتظرون وكأنه العيد؛  فمنهم من يقاوم النعاس لآخر لحظة ويظفر بالقمح المسلوق، ومنهم من ينام وحبات السليقة تشاركه أحلامه.
حبة القمح هي الخير في كلِّ بيتٍ قروي؛ فهي صديقة الفلاح وعشقه الأبدي يرعاها ويهتم بها كطفله الصغير منذ أن تكون بذرة إلى أن تُحصد وتُوضع بالأكياس؛ لتملأ البيوت، فهي المادة الأساسية التي تدخل في صناعة المعجنات، المعكرونة، البرغل والخبز وهذه مواد أساسية في حياة الناس فحبات القمح تقضي دورة حياتها في موكبٍ مهيبٍ يحملها الفلاح به للبذار، وبنفس الهيبة تعود محملةً وقت الحصاد لتسكن البيوت، وتؤمن احتياجاتها فهل هناك أجمل من منظر الحلة التي يُسلق فيها القمح بجو جماعي، وكأنه عرس يجتمع فيه شباب وأطفال وصبايا القرية ليتعاونوا ويساعدوا بعضهم البعض.
في شهر أيلول موعد سلق القمح
تعد السليقة عادة تراثية وتقليد مستمر إلى يومنا هذا تحدثت عنها الجدات وأكلها الأولاد من أيدي الأمهات، فما أن يُؤتى بالموسم للبيت حتى تسأل السيدات ما نوع القمح (قاسٍ أم طري) وتزداد سعادتهن مع سماع كلمة قاسٍ لأنه يصلح للخبز وللبرغل لتبدأ بالاستعداد لتنظيفه من الشوائب والأتربة والحصى الصغيرة التي رافقت عملية الحصاد لتستعد لتجهيز القمح للسلق؛ وذلك في شهر أيلول حيث تتعمد النسوة ذلك ليحصلن على لون قمح أصفر كما خريف أيلول حسب ما يعتقد كبار السن.
تراث الأجداد يتناقله الأبناء
 ومع اقتراب طبخ السليقة لتجهيز البرغل للشتاء توجهت صحيفتنا لبيتِ أُمٍ تقوم بتنظيف القمح استعداداً لسلقه حيث تحدثت لنا المرأة الخمسينية “خاتون العلي” قائلة: “السليقة موروث شعبي قديم ورثته أمي عن أمها وورثته عنها، وكذلك سأورّثهُ لابنتي”، وتابعت خاتون كلامها بأنها تنتظر هذا اليوم كل عام بفارغ الصبر لما يُحدِثه من سعادة وبهجة في قلوبهم التي تزداد فرحاً مع نضوج حبات القمح الذهبية التي تنتفخ في الحلة المخصصة لعملية السلق.
الخطوات التي تسبق عملية السلق
 هذا وقد توجهنا لبيتِ أُمٍ أخرى “خديجة الخلف” التي تقترب من عامها السبعين لتجود لنا بما تحمله ذاكرتها من خطوات سلق الحنطة قائلة: “نجهز الحنطة وننظفها من الأوساخ العالقة ثم تنقل لأحواض الماء لتصويلها وغسلها، حيث يتم نقلها للحلة التي هي عبارة عن وعاء حديدي يتسع لكمية كبيرة من القمح ما يقارب الكيسان ويضاف الماء فوقها حتى يغطيها بشكل كامل حينها تُشعل النار التي تبدأ قوية وما إن يغلي الماء حتى يُهدأ من حدتها كي لا تحرق الحنطة وتلتصق بالحلة مما ينعكس على طعم البرغل، وتغطى لكي يساعد البخار على نضوجها.
الحلة وعاء لسلق القمح
كما أجابت الحجة خديجة عن سؤالنا فيما إذا كانت الحلة متوفرة لدى الجميع لتقول : “الحلة يملكها أناس معينون وربما نقوم بجلبها من قرية أخرى نتناوب على استعمالها حي تلو الآخر مع دفع إيجارها أما نقوداً أو قمحاً”.
القمح المسلوق مثار إِعجاب الصغار والكبار
وأضافت الحجة خديجة بأن هذا العُرف يعود لمئات السنين يشارك فيه الرجل المرأة حتى لحظة نضوج القمح ونشله بأوعية إلى الأسطح لنشره بطبقة رفيعة لينشف تحت أشعة الشمس حيث يتساعد الشبان والبنات والأطفال الذين ما إن ينتهوا من عملهم حتى يجلسوا يأكلوا من هذه الأكلة الطيبة.
أما الأطفال فقد فرحوا بعد أن امتلأت صحونهم الصغيرة بها فمنهم من يضع الملح عليها ومنهم من يضع السكر.
 هذا وقد كان لأب في الستين من عمره “عبد الوهاب الجاسم” كلمة بهذا الخصوص حيث أوضح بأن السليقة لا يطبخونها للبرغل فقط وإنما عندما تبزغ أسنان أطفالهم الصغار فيقوم الأهل بطبخ كمية قليلة توزع على الجيران فرحاً بالخبر السعيد.
القمح في رحم المطاحن يولد برغلاً
 وما أن تنتهي عملية تنشيف القمح حتى تنظفه ربات البيوت مرة ثانية للتأكد من نظافته والذهاب به للمطحنة للحصول أخيراً على البرغل الناعم الذي يستخدمونه في صنع الكبة، والخشن الذي يطبخونه في الأعراس والولائم، وكذلك السميد فلكل نوع أكلة واختصاص ونوع معين يدخل في الطبخ.
الذهب الأصفر وأكلة الكشك
كما ويدخل الذهب الأصفر في صناعة أكلة الكشك الشعبية التي تعتبر من أبرز الأكلات الشعبية اللذيذة التي يستسيغها كبار السن هذا ما قاله الحج “خلف الحسين” ذو الخمسين عاماً الذي تحدث لنا عن طريقة تحضير الكشك قائلاً: “يخلط القمح المبشور مع اللبن ويقطع لكرات تُعرض للشمس وتخزن لتؤكل شتاء حيث تنقع بالماء ويتم طبخها مع اللحمة والمكسرات”.
 وهكذا يبقى تراث الأجداد بصمة على جبين الأجيال تتوارثه وتتناقله بكلِّ محبة وثقة بعراقة وأصالة هذا الموروث الذي يعزز التعاون الاجتماعي.