سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

الحوار الوطنيّ… سبيل حل الأزمة

رامان آزاد –
الحديث عن الحوار الوطنيّ يوازي عمر الأزمة السوريّة التي مازالت نارُها مستعرة، حيث الجبهات مفتوحة ومتعدّدة، وما حدث خلال السنوات السبع هو نقلٌ للمعارك من مكانٍ لآخر، لتصلَ إلى بلدات ومدنٍ كافحت طويلاً لتحافظ على بيئةٍ آمنة وكانت مقصدَ النازحين من المناطق الساخنة، وكأنّ الحرب قدرٌ يجب أن تناله كلُّ الجغرافيا الوطنيّة، ولعلَّ ما حدث في عفرين نموذجٌ مستجدٌّ على كاملِ مسارِ الأزمة السوريّة، إذ لا تبرير له، إلا أنّه إرادةُ احتلالٍ تركيّةٍ.
منذ بداية الأزمة السوريّة لم تنفك الأطرافُ الضالعةُ في الأزمة تتحدث عن حلٍّ وشيك اعتمدت فيه على إحدى حالتي إسقاط؛ إما المؤامرة أو النظام، وبالتوازي مع حديثٍ عن الحوار وطاولات التفاوض، فعُقِدتْ سلسلةُ اجتماعاتِ جنيف لتصلَ إلى نسختها التاسعة، وتبعتها آستانه تناهزها عدداً، وأما سوتشي فقد كانت الملحق الذي استحدثته موسكو لتؤكّد حصريّة قيادتها للملف السوريّ. إلا أنّ كل هذه الاجتماعات انتهتْ إلى بدايتها والمربع الأول، ومازال السوريون في مناطق النزوح وبلدان اللجوء والهجرة بانتظار حلٍّ وطنيّ يُنهي المعاناة ويضعُ حداً للحربِ.
مشروعُ سورية الديمقراطيّة دعوةٌ لحوارِ وطنيّ
من المشاكل الأساسيّة التي تعطّل الحوار السوريّ هو التدخل الخارجيّ والمسائل التقنيّة، وطريقة تشكيل الوفود والوصاية عليها وتعمّدِ تغييب أطراف سوريّة وطنيّة، وفي مقدمتهم أبناء شمال سورية استجابةً للطلب التركيّ، وما ذاك إلا لأنّهم يمثلون مشروع حلٍّ سياسيّ هو التعدديّة الديمقراطيّة، فأنقرةُ تخشى انتقالَ التجربة إليها فراحت تحاربها بكلِّ قوّةٍ عبر المرتزقة ومن ثم انتقلت للتدخل العسكريّ المباشر فبدأت بجرابلس ومرّت بالباب ووصلت إلى عفرين، وغنيٌّ عن القول أنّ التدخل التركيّ عطّل فرصَ الحوار الوطنيّ الذي يستلزم تطهير الأرض السوريّة من كلّ الإرهاب سواء أكان المرتزقة العابرين للحدود أم إرهاب الاحتلال التركيّ، وتلك أولويّة وطنيّة يجب أن تكون محلّ توافقِ كلّ السوريين وأن تكون حاضرةً بقوة في نقاشاتهم على الطاولة وقبلها.
كثُر الحديثُ في الآونة الأخيرة عن فرصةِ حوارٍ طرحها النظامُ السوريّ مع قوات سورية الديمقراطيّة بعد موقفٍ ضبابيّ سابقٍ حول تقييمِ هذه القوات، ولكن الواقعَ أنّ هذه القوات تجاوزت كلّ حدود التقييم اعتباراً من تمثيلها لكلّ أبناء شمال سورية، وبذلك أكّدت قيم التعايش والوطنيّة الجامعة، وهنا لا تحتاج إقرارَ أحدٍ بالشرعيّة من حيث تشكيلها، فحتّى الجيوش الوطنيّة قد تنقلب على شعوبها فتمارسَ القمع عندما توجّهها السّياسات، وباعتبارها السدَّ المنيعَ الذي واجهَ الإرهابَ فإنّها أضافتْ مزيداً من الشرعيّة في الأداء. عدا عن إقرار الآخرين عبر علاقات التنسيق والتعاون كما هي الحال مع الجيش العراقيّ. فيما تمّ تأكيد الوطنيّة عبر المشروع السياسيّ التعدديّ الديمقراطيّ في إطار سورية الموحّدة الذي هو هدف هذه القوات. والسؤال البسيط الذي يطرح نفسه: ما هو حجم المبادرات الوطنيّة الجديّة التي طرحها الآخرون ولم يستجب لها مجلس أو قوات سورية الديمقراطيّة؟ والجواب: أنّ الكرة في ملعب الآخرين وهم المقصّرون، إذ ما زالوا يعوّلون على الحلّ العسكريّ ومعطيات الميدان. وباختصار مشروع سورية الديمقراطية دعوةٌ لحوار وطنيّ لحلّ الأزمة بلا شروط.

الحوار سلوكٌ حرٌّ قائم على التشاركيّة

الحوار هو النّقاش والحديث بين طرفين أو أكثر، والمحاورة مراجعةٌ للكلام والمنطق عبر الخطاب، ويُعرّف اصطلاحاً بأنّه الحديثُ الذي يحاول كلُّ طرف من المشاركين فيه إقناع الآخر بما يريد، وعلى الآخر مراجعة ما قيل منطقيّاً، ومن ناحية الأفكار والحقائق يحاول كلُّ طرف طرح أفكاره بوضوحٍ ليوصلها للآخر.
الحوار عمليّاً يضع حدّاً نهائيّاً لانقطاعِ العلاقات، والخروج من العزلة، وكسر طوق الانعزال، ويُفترض أن يكون سلوكاً يوميّاً لا ينحصر بتبادل الخطابات بالاجتماعات والمؤتمرات، بل سلوكاً حرّاً قائماً على التشاركيّة بين أكثر من طرفٍ، والحريّة جانبٌ مهمٌّ جداً فيه، وإلّا تحوّل إلى شكلٍ من الإملاء ووصاية طرف على آخرٍ حُوصر في إطار اجترار الشعارات من غير طائل.
إذا كانت الوصاية تعني إقصاء الآخرين وتهميشهم في الفعل والقول، فالحوارُ يعني التأكيد على الحضور، وعدم القبول بغياب أو تغييب أحدٍ، وهذه هي الحال في ظلِّ الأحزاب الشموليّة التي تتدخل في تفاصيل الحياة العامة وتصيّرها لوناً واحداً، وقالباً واحداً، وهنا فالحوار الوطنيّ يعني تبادل الرأي حول القضايا الوطنيّة الأساسيّة بين مختلف القوى السياسيّة والمؤسسات الاجتماعيّة والتوجّهات الحزبيّة والمجموعات الإثنيّة والعرقيّة، وتأكيد خصوصيّاتها الثقافيّة واللغويّة، والإقرار بالاختلاف الطبيعيّ بينها، فيما تبقى المسائل المتصلة بوحدة البلادِ والسيادة الوطنيّة محلَّ التوافق العام، والكلّ معنيٌ بالدفاع عنها؛ على مبدأ أنّ الوطنيّة حالةٌ جامعة وكلّ أبناء الوطن ملزمون بتبنّي صيغة مشترَكة في أساليب تحقيقها وصياغة شكلها وكيانها السياسيّ وبنيتها المؤسساتيّة، وتُصاغ تلك الرؤية المشتركة في إطارٍ قانونيّ هو العَقْد الاجتماعيّ (الدستور) ليكونَ حجّة العمل، ووفقه تتمُّ المقاضاة.
الوطنيّة شرطُ أساس لنجاح الحوار
لا يمكن اعتبارُ النظام الداخليّ أو الأدبيّات النظريّة لأيّ حزبٍ سقفَاً نهائيَّاً للفكر، والتي تستند عادةً على تحليلٍ مرحليّ للواقع واستنباطٍ ظرفيّ لسبلِ الوصول للأهداف، وعلى هذا الأساس يمكن للحزب تعديل شيءٍ من أدبياته ونظريته العقائديّة فيما لو تبدّت له آفاقٌ جديدة، وبذلك يمتلك القدرة على استيعاب الأحداث الطارئة، ولا ينغلق في دائرة الانفعال والبطالة.
المنطلقات الأساسيّة والتجربة العمليّة والخبرات المكتسبة والشخصيات الرائدة التي تقود النضال وكذلك العلاقات تترك أثرها الواضح في فكرة الحزب ورؤيته المستقلَّة للأحداث، وفهمه وتقييمه للمصلحة العامة، وقد تجتهدُ الأحزاب في أفكارها فتتفقُ أو تتعارض فيما بينها؛ ما يؤثّر على نهج العلاقات المتبادلة وبعض القرارات، لذا لا بُدَّ من اعتماد سياسة الحوار فيما بينها للخروجِ برأيٍ توافقيٍّ ليس على سبيل المجاملة بين القوى السياسيّة أو التنازل من طرف بمقابل استعلاء آخر بل لحاجة وطنيّة. والنجاح في الحوار الوطنيّ لا يأتي اعتباطاً بل نتيجة تضافر شروطٍ أساسيّة.
ــ الانتصار للحالة الوطنيّة فقط، فمن المهم لإنجاح الحوار الوطنيّ التأكيدُ على مسائل أساسيّة ومُراعاتها كالسيادة الوطنيّة والقرار الوطنيّ ومنع التدخل الأجنبيّ، وبذلك يخرج الحوار بنتائج إيجابيَّة تنعكس على مُجمل الحالة الوطنيّة، وفي مُقدَّمها ترجيح المصلحة العامّة على المصالح الفئوية والحزبيّة؛ باعتبارها أولوية عابرة لكلّ حالات التنوع السياسيّ والعرقيّ والدينيّ، وتفهّم أنّ تقدُّم أيّ طرح وفوزه بالتوافق لا يعني تفوقاً أو فوزاً لفريقٍ على آخر، بل هو انتصارٌ للحالة الوطنيّة الجامعة، وأنّ التوصل لنقاطٍ مشتركة لا يعني تنازلاً، ففي الوطن الواحدُ لا ينتصر فريق على آخر، بل انتصارٌ يتشارك كلُّ أبنائه بصنعه ويجنون ثماره، إذ لا استئثار في أيّ جزئيّة، حتى الخصوصيات الثقافيّة والفكريّة، تُؤطّر بالوطنيّة الجامعة، والخصوصيّة لا تعني خروجاً عن الولاء للوطن أو الارتباط بأجندة خارجيَّة، وتبنّي حسابات خاصة تُعطّل فُرص الوصول لحلولٍ مُشتركةٍ حول المسائل الخلافيّة، بل هي حالة غنىً للثقافة الوطنيّة.
ــ قبل انطلاق الحوار من الضروريّ إعداد برنامج متكامل أو في الحدّ الأدنى امتلاك تصوّرٍ عامٍ له، ويشمل ذلك معرفة الأطراف الأخرى والوقوف بموضوعيّة على برامجها ومَطالبها واستيعاب المفاهيم الوطنيّة والحضاريّة، وسهمِ الفريق الآخر بالحالة الوطنيّة، ومختلف التجارب التاريخيّة، وعدم اتّهامه بأنّه حالة طارئة على التاريخ والجغرافيا . بالإضافة إلى تفهّم قضية التعايش السلميّ، ومعرفة القيم الدينيّة التي يقوم عليها، فيما لو كان الفريق الآخر مختلفاً بالدّين أو المذهب والعقيدة، وكذلك الأنماط الاجتماعيّة السائدة لديه، كما تجبُ معرفة مدى فاعليّة الحوار الوطنيّ والمسؤوليّة المترتبة عليه، وما ينتج عنه من نتائج مفيدة لكلّ الأطراف.
ــ تبادل الاحترام بين أطراف الحوار: الإقرار للطرفِ الآخر بأنّه جزءٌ أساسيّ من الحالة الوطنيّة وأنّ أيّ غيابٍ أو تغييب له يعني انتقاصاً من الحالة الوطنيّة نفسها، وبالتالي حلاً غير ناجزٍ لا يرتقي للاستحقاقات الوطنيّة والمرحليّة، وتهرّباً من الواقع، فبعضُ الأطراف تحضر إلى طاولة الحوار مستندةً إلى رصيدها من القوة أو الإنجاز الميدانيّ العسكريّ، وبخاصّةٍ عندما يكون الحوار حول إيجاد حلٍّ لنزاع مسلّح، أو أنّها تجيّر المؤسّسات الوطنيّة كالجيش والأجهزة الأمنيّة لممارسة الضغط على الأفرقاء وتخويفهم، أو بمنع طرح مواضيع معيّنة، وطرح أُخرى وحصر الحوار حولها. واللافت أنّه قبل كلِّ جولة في جنيف يتمّ تسخين الجبهات لتحقيق تقدّم ميدانيّ لصرفه على الطاولة.
ــ العمل الجاد لتحقيق هدف الحوار: كثيرٌ من الحوارات تسبقها تصريحات للأطراف المشارِكة تحملُ معاني الإحباط والتّثبيط، وعدم تعليق الأمل عليها، وأنّها مجرّد اجتماعات بروتوكوليّة لا معنى لها، وهنا لا يقيم هؤلاء وزناً للمواطنين الذين يعلّقون آمالهم على نتائج الاجتماع وبخاصّةٍ في ظروف الحروب والصراعات المسلَّحة والأزمات، فتتعدّد جولات الاجتماع فيما تعملُ ماكينة الحرب وتحصد أرواح البشر، والمسؤوليّة الوطنيّة تقتضي حقنَ الدماء والتسريع بالعملية السياسيّة وحصر الخلاف على طاولة التفاوض، ووضع حدٍّ للصراع المسلّح، ويجب على كلّ طرف محاور أن يعرف الهدف المقصود من الحوار، وما يتصل بهذا الهدف من ارتباطات، فلكي يكون الحوار إيجابياً وحقيقياً ينبغي بناء علاقات حِرفيّة وإيجابيّة بين الطرفين لتبادل وجهات النظر حول القضيّةِ المطلوبِ حلّها وحسمُها.
الالتزام بأصول الحوار والتقيّد بنتائجه
ــ انتهاج العلميَّة والمهنيَّة في عرضِ المواقفِ المُختلَف حولها؛ بتوفير الأدلّة المهنيَّة والعلميَّة اللازمة لدى طرحها للمناقشة والمداولة، والعمل على الحدّ من هوّة الخلاف، وتدوير الزوايا، والمرونة في أسلوب الطرح للخروج بتوصيات مشتركة. وهنا فإنّ للغة الحوار أهميّة كبيرةً للتعبير عن الأفكار المطروحة، ويجب تجنّب تراشق الاتهامات أو عبارات الانتقاص، لأنّ قبول الحوار يعني القبول بالطرف الآخر، وهذا القبول غير قابل للاجتزاء والتأويل، من قبيل إقامة الحجة الشكليّة، ومن ثم التهرّب من استحقاقات الحوار الأخلاقيّة. كما ينبغي تجنّب فوضى المُناكفات السياسيّة والصراعات الحزبيّة أو المذهبيّة العبثيّة.
ــ الحياديَّة شرط مهمٌ يترتب على الأطراف الراعية للحوار، وألّا تتدخل في مساراته وتمارس الوصاية على الحوار أو تنحاز لفريق دون الآخر أو تعطّل الحوار لأسباب تقنيّة لا تتصل بالحوار ومضمونه، وأن يكون لديها من الإمكانيّة والصلاحيات ما تضمن آليات التنفيذ في مجمل التوافقات، وألا تقع في مطبِّ ازدواجيّة المعايير، وتكون طرفاً في الخلاف أو الصراع، فتفرض شروطها.
من أهم معايير تقييم نجاح الحوار الوطنيّ هو تبنّي السياسات الناجحة والقرارات عن قناعة ورغبة، وتقليل حجم المُعارضة، ونزع المُبرّرات التي تقف خلفها، استنادها لقوّة الحُكم واستقراره، ودعم قوّة الجبهة الداخليّة للوطن وتماسُكها، ونجاح السياسات المتَّخذة في شتّى الجوانب والمجالات، وتعزيز الشعور بالانتماء الحقيقيّ للوطن، والتنافس في خدمته، والتضحيَّة من أجله. وإعطاء الفرص للإبداع في جوانب الحياة المختلف (الصحيَّة، التعليميَّة، السياسيَّة، الاقتصاديَّة). وتسهم في ازدهار الوطن وتقدُّمه في كلّ المجالات، وتحسّن العلاقات الخارجيَّة وتشجّع الاستثمار وتطوّر الخدمات، في استقرار أمنيّ واجتماعيّ، وتجنيب الوطن فوضى المُناكفات السياسيّة والصراعات الحزبيّة، وتفويت الفرصة على الأجندات والارتباطات الخارجيَّة والطامعين لتحقيق مآربهم ومخططاتهم.
يجب ألا يبقى الحوار الوطنيّ منصة طارئة بل أن يصبح نهجاً وسياسة ثابتة، ليزدهر الوطن بكلّ نواحي الحياة، وفي بلدٍ مثخن الجراحات كسورية لا سبيل للحلّ إلا بحلّ توافقيّ ديمقراطيّ يصنعه السوريون الوطنيون، فما السنوات التي مضت من عمر الأزمة إلا بسبب انتظار الحلّ المستوردِ.