سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

الحرب في غزة… تسعة شهور وحسابات الربح والخسارة لم تنته بعد..!

حمزة حرب

من المعلوم للجميع في أي حربٍ عسكرية يطول أمدها سيكون فيها الجميع خاسراً، لكنه يبحث عن المجد وهو مفقود إلى الأبد، وعن انتصار يبتعد كل يوم بسنوات؛ ذلك أن الغطرسة تعمي العيون والأبصار والقلوب، دون اكتراث للضحايا الأبرياء وهذا ما يحدث بالضبط في قطاع غزة، للشهر التاسع توالياً من حربٍ ضروس بين إسرائيل وحماس، والتي أودت بعشرات آلاف القتلى، وأكثر من مليون ونصف المليون مهجر، وتدهور كبير في الواقعين الإنساني والصحي في وقتٍ لا زالت أطراف الصراع تدرس فيه حسابات الربح والخسارة على حساب دماء الأبرياء.

الواقع الميداني في غزة

تدخل الحرب بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة شهرها التاسع في ظل استمرار القتلى والمهجرين، إلى جانب تدهور الوضع الإنساني ونقص الإمدادات بسبب قرار تل أبيب حظر دخول قوافل “الأونروا” إلى القطاع، في وقت تصر فيه الحكومة الإسرائيلية على المضي قدما في عمليتها العسكرية رغم تراجع التأييد الدولي لها، حسب مراقبين.

فمنذ السابع من تشرين الأول الماضي، وبعد أن نفذت حماس عملية عسكرية أطلقت عليها اسم “طوفان الأقصى” ردت إسرائيل بشن حرب على قطاع غزة خلفت أكثر من 130 ألف فلسطيني بين قتيل وجريح، معظمهم أطفال ونساء، ونحو عشرة آلاف مفقود وسط دمار هائل ومجاعة أودت بحياة أطفال ومسنين.

هذه الحرب تخللتها هدنة مؤقتة أواخر العام الماضي أسفرت عن تبادل أسرى من الطرفين، إلا أن تل أبيب التي حررت أربعة من أسراها في النصيرات جنوب القطاع لا زالت تقدر وجود 120 أسيرا ومحتجزاً إسرائيليا في غزة، فيما أعلنت حماس مقتل أكثر من 70 منهم في غارات شنتها إسرائيل، التي تحتجز في سجونها ما لا يقل عن تسعة آلاف و500 فلسطيني.

إسرائيل الباحثة عن نصرٍ ميداني تسوقه للداخل، ضربت عرض الحائط الدعوات والقرارات كلها، على رأسها قرار مجلس الأمن الدولي، الذي دعاها إلى وقف فوري لإطلاق النار، وأوامر محكمة العدل الدولية بإنهاء اجتياح مدينة رفح جنوب القطاع، واتخاذ تدابير لمنع وقوع أعمال “إبادة جماعية”، وتحسين الوضع الإنساني المزري في غزة.

لقد أدار الجيش الإسرائيلي الحرب كما لو أنه يحارب دولة عظمى، وليس تنظيمات مسلحة لا يزيد حجمها عن 40 ألف مسلح، وجندت 287 ألف جندي من جيش الاحتياط، إضافة إلى الجيش النظامي برمته، أي ما مجموعه نصف مليون مقاتل.

واستخدمت إسرائيل الوحدات العسكرية في سلاح الجو أولاً، ثم سلاح البحرية واليابسة والهندسة والمخابرات، واستخدمت قنابل ذكية وأسلحة جديدة، لم تستخدم من قبل، ووسائل تعتمد الذكاء الاصطناعي، عدا عن القوات الأميركية والقطار الجوي والبحري من الولايات المتحدة لتعويضها عن خسائرها من الذخيرة والأسلحة، وبدأت القصف من بعيد، حتى لا تقع في مطبات الاشتباك، لذلك قيل إنها «تقتل ولا تقاتل».

كان الخبراء، وبينهم أصدق أصدقاء إسرائيل، ينصحونها ويلفتون نظرها إلى أن الهدف غير واقعي. وعندما انضم إلى الحرب حزب الله اللبناني وجماعة الحوثي وبقية أذرع المحور الإيراني، هرعت أميركا وهبت قوتها العظمى لنصرة إسرائيل حتى أصبحت شريكة في الحرب، وتمكنت من الاتفاق مع إيران على إبقاء رقعتها في الشمال تحت سقف محدود، دون الذهاب إلى حرب شاملة.

حسابات الربح والخسارة لحماس 

لم يكن توقيت الحرب أكثر مصادفة لنتنياهو ومع تحول انتباه الجمهور الإسرائيلي نحو غزة، تضاءل الزخم وراء الاحتجاجات، ووجدت المعارضة التي كانت موحدة ذات يوم نفسها تتصارع مع تعقيدات معالجة أزمة متعددة الأوجه، مما لم يترك مجالًا كبيرًا للضغط المستمر على رئيس الوزراء الإسرائيلي المحاصر، وظهرت الانقسامات داخل الشارع الإسرائيلي، حيث أصبحت الآراء حول قيادة نتنياهو مستقطبة بشكل متزايد.

هذه الحرب كغيرها من الحروب تأخذ فيها الأطراف المتصارعة حسابات الربح والخسارة بعين الاعتبار، فحماس تبحث عن عرقلة مسار التطبيع العربي الإسرائيلي، خصوصاً التطبيع بين إسرائيل والسعودية، وعلى ما يبدو أنها نجحت في ذلك، حسب ما أعلنت عنه السعودية أن المسار تم تعليقه بعد حرب السابع من تشرين الأول.

نقطة أخرى تبحث عنها حماس، وهم قادتها في السجون الإسرائيلية، التي تحاول المقايضة بملفهم مقابل ملف الأسرى والمحتجين من الإسرائيليين، التي تمسك بهم حماس إلى يومنا الحاضر.

فحماس تحاول في الوقت الراهن تعزيز بقائها السياسي داخل القطاع، أو ما تبقى منه في ضوء سيطرة الجيش الاسرائيلي عسكرياً عليه، وتفشل حتى اللحظة في دفع المفاوضات الراهنة لتحقيق هدف البقاء في ضوء إصرار حكومة نتنياهو على القضاء على حكمها بشكل كامل.

ويقتصر هدف حماس في الوقت الراهن على ضمان بقاء الحركة، بعد أن فشل رهانها على قضيتين مختلفتين كجزء من استراتيجيتها الأول منها، هو أن تقوم المنظمات الإقليمية الأخرى المدعومة من إيران مثل حزب الله بدور مساوٍ أو أكبر في الحرب مما فعلت، والثانية بشأن الضغوط التي يمارسها المجتمع الدولي.

لم تكن حماس تتوقع بالضرورة أن تنتصر على الأرض بمفردها؛ بسبب التفاوت الواضح بين قدراتها العسكرية وقدرات الجيش الإسرائيلي، مع ذلك فقد كانت تتوقع أن يجر حزب الله إسرائيل إلى حرب شاملة في وقت أبكر بكثير مما كان يحدث في العملية، وبالتالي التلاعب بإسرائيل لتقسيم قواتها واهتمامها على جبهتين رئيسيتين، في حين يتم تفجيرها أيضًا من الفصائل الصغيرة والوكلاء في العراق، وسوريا، واليمن.

إلا أن ذلك لم يحدث وأجبرت حماس على وضع الفلسطينيين في قطاع غزة على فوهة المدفعية، والرهان على التعاطف الدولي معها كحركة، لكن المجتمع الدولي تعاطف مع الفلسطينيين كقضية عادلة، وليس مع حماس وبالتالي حتى هذا الرهان خسرت فيه الحركة، التي منحت في السابع من تشرين الأول طوق النجاة السياسية لنتنياهو، حسب ما يؤكده خبراء.

 طوق نجاة لنتنياهو

قبل السابع من تشرين الأول كانت إسرائيل في الداخل تخوض معركة عقائدية كبيرة جداً، أحدثت شرخاً هائلاً في المجتمع والجيش ومؤسسات الدولة، لدرجة راح قادتها يحذرون من حرب أهلية، فاليمين الذي فاز بالحكم بأكثرية أربعة مقاعد فقط، باشر الإعداد لانقلاب على منظومة الحكم والجهاز القضائي، وهي خطة اشتغل عليها طيلة 17 عاماً ولها علاقة وثيقة بقطاع غزة.

بدأ العمل في هذه الخطة عام 2007، أي في الوقت الذي نفذت فيه “حماس” انقلابها على السلطة الفلسطينية وسيطرت على غزة، وأحدثت انقساماً في صفوف الشعب الفلسطيني، لكن هذا الانقلاب لم يكن هماً أساسياً عند اليمين الإسرائيلي. إنما الهم لديه كان في قرار حكومة هولير شارون وإيهود أولمرت، الانسحاب من قطاع غزة وإخلاء ثمانية آلاف مستوطن، وإزالة 21 مستوطنة وإنهاء الوجود الاستيطاني اليهودي في القطاع تماماً.

وقرر اليمين أن يبني أسساً تمنع قيام حكومة أخرى في إسرائيل تقرر انسحاباً من الضفة الغربية، حتى لا تقام دولة فلسطينية، والطريقة الوحيدة التي وجدها صالحة لتحقيق الهدف كانت تغيير منظومة الحكم وتحطيم المعوقات الديمقراطية والقضائية والإعلامية، التي تقف في طريقه.

المعارضة الإسرائيلية ومعها الدولة العميقة، الممثلة في الجيش والأجهزة الأمنية والدوائر المدنية والحكومية، وفي المؤسسات الاقتصادية والبنكية والأكاديمية والجهاز القضائي والإعلام هبت لمنع الانقلاب الذي جرى التحضير له أكثر من تسعة شهور من خلال المظاهرات الضخمة ضد نتنياهو واليمين المتطرف بمشاركة مئات الآلاف في كل يوم سبت لمدة 40 أسبوعاً، ووقفت إلى جانبهم الإدارة الأمريكية علناً ودول الغرب على اختلافها. وبدا أن المعركة تسير إلى نجاح مبهر، وأن حكومة بنيامين نتنياهو آيلة إلى السقوط القريب، لكن يوم السبت الحادي والأربعين، الذي صادف يوم السابع من تشرين الأول 2023، جاء طوق النجاة لنتنياهو وحكومة اليمين المتطرف متمثلاً بهجوم «حماس» المباغت، فتوقفت معركة الانقلاب، وسقوط نتنياهو الحتمية في الداخل.

وراح نتنياهو يعلنها حرباً جارفة لإبادة «حماس» والقضاء على حكمها حتى لا يعود قطاع غزة تهديداً، وإعادة الأسرى المختطفين بالقوة، وراح يبعد عنه التهمة، ويلصقها بالجيش والمخابرات، في معركة وجودية يخوضها نتنياهو داخلياً وخارجياً بل كاد أن يجر الولايات المتحدة والدول الغربية إلى صراع أوسع نطاقا، وكل ذلك للحفاظ على بقائه السياسي، وهو ما تفسره وضع العصي في عجلة، أي مفاوضات تجري على الأرض؛ لذا يراها الكثير من المتابعين، أن هذه الحرب استثمرها نتنياهو خير استثمار.

وكما جرت العادة في الداخل الإسرائيلي، الذي على الدوام يشبه بنيامين نتنياهو بالناجي السياسي ومع ذلك، تبدو الحرب الحالية في قطاع غزة والتي دخلت شهرها التاسع، قد أعادت تنشيط حظوظ نتنياهو السياسية بطريقة لم يكن من الممكن أن يتوقعها إلا قليلون، ومع انقشاع الغبار، يصبح من الواضح بشكل متزايد أنه وسط الفوضى والدمار، يقف نتنياهو باعتباره المنتصر الوحيد وحامي حما الصهيونية، وهي رواية لها صدى عميق لدى شريحة كبيرة من الناخبين الإسرائيليين المتطرفين.

صب الزيت على النار

خارج ساحة الصراع الجغرافية ينقسم المتاجرون إلى نوعين: دول رسمية مثل دولة الاحتلال التركي التي ترسل المرتزقة لليبيا وسوريا والعراق وغيرها، في حين يتاجر رئيس نظامها رجب أردوغان بالدم الفلسطيني كل ساعة دون أي حياء ولا وخز ضمير، ففي الوقت الذي تبدو فيه تصريحاته كجعجعةٍ بلا طحين يقدم الدعم لإسرائيل اقتصادياً وأمنياً وربما تسليحاً.

إلى جانب هذه المتاجرة من دولة الاحتلال التركي تأتي المتاجرة الإيرانية التي سخرت حماس، ودعمها لها ورقة ضغطٍ ضد دولٍ عديدة على رأسها إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة وحتى أوروبا واستخدام هذا الدعم لمصلحة تفاوضها مع الدول الغربية فيما يخص مشروعها النووي.

أما القسم الآخر فهو حركات الإسلام السياسي السنية والشيعية، الإخوان وحزب الله، الذين ينتهزون إراقة الدم الفلسطيني وأجساد أطفال غزة، وهدم منازل المدنيين في أحياء غزة، ليجعلوا من ذلك كله مادة إعلامية لحملة علاقات عامة يجددون بها التعاطف مع قاعدتهم الشعبية، ويقدمون أنفسهم للشعوب العربية البسيطة المدافع الوحيد عن قضايا الأمة وعن المسجد الأقصى، وهم في الحقيقة يشكرون الجيش الإسرائيلي ويتضرعون لاستمرار الحرب.

ومن العجيب أن ثلة من يدعون دعم القضية الفلسطينية كُشفت عنهم ورقة التوت بعد حرب السابع من تشرين الأول ليتبين أن كل هذه الأطراف غير جادة في الدخول بمواجهة مع إسرائيل، فلا صواريخ إيران ولا صواريخ حزب الله ولا دعم الإخوان وقادتهم غير من حيثيات الحرب، التي يدفع كل يوم ثمنها الشعب الفلسطيني.

فبعد تسعة شهور من الحرب المستمرة، والتي تعدُّ من أطول الحروب زمنياً لإسرائيل يرى مراقبون أن بيت القصيد ومربط الفرس يكمن في أن حل مشكلات الشرق الأوسط مربوط بشكل أو بآخر بحل القضايا العالقة، وإنصافها قضايا عادلة كالقضيتين الفلسطينية والكردية، وفق الأطر الديمقراطية القائمة على تقبل الأخر بعيداً عن الدوغمائيين والبراغماتيين والمتاجرين بقضايا الشعوب، ومصائرهم على حساب دماء أطفال ونساء وشيوخ من لا ناقة لهم ولا جمل بحلبة المصالح الدولية بل أنهم هم من يدفعون الفاتورة على الدوام بمزيدٍ من دماء أبنائهم سعياً لنيل حريتهم وإبعاد أنفسهم عن أمواج المصالح، التي تتقاذفهم في شواطئ الهلاك.