سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

التهجير نَحوَ الجَنُوب… الصورة تكتمل بمشاهد قليلة مع مهجّرة في مخيم “واشو كاني”

روناهي/ الحسكة ـ مهجرة سبعينية بلا اسم حملت تجاعيد وجهها غصة النزوح واللجوء، فتجلت اللامبالاة على محياها، إلا أن قلبها مازال يحلم بالعودة إلى الديار.


في “واشو كاني”؛ يروي كل زقاق من أزقة المخيم الواقع شمال مدينة الحسكة معاناة مختلفة، قصص وحكايا كثيرة كانت تختبئ تحت تلك الخيم، خيمٌ لا تقي الأطفال برد شتاء، ولا حرارة صيف جاثم على صدر المخيم.

مهجرة الشمال 

لا تبدو، للوهلةِ الأولى، مكترثة لما آلت إليه الأمور في الشمال الذي غادرته مهجرةً نحو “الحسكة”، لمحتها واقفةً أمام شمس الصيف اللاهبة؛ لا تتقيها بشيء، وكأنها اعتادتها منذ زمن بعيد، أو أنها نسجت معها علاقةً من نوع خاص.

جاوزت السبعين، تعتمر “العصبة”، التي لم تعد حريريةً لارتفاع سعرها، فلجأت كبقية أقرانها من “مستوري الحال” إلى استبدالها بالقطن، الذي يناسب المداخيل المتواضعة، غطّتها بمنديلٍ أبيض شرِبَ الكثير من “النيلة”، وكلّ الظنّ أنها ورثته من زوجٍ مُتوفى.

سمراء السحنة، تركت التجاعيد في وجهها أخاديدَ عميقة كأغلب أترابها من النساء.. يبدو أن الشيب قد خط رأسها منذ مدة ليست بالقليلة، لكنها ما فتئت تكافحه بالحناء حتى غدا لونه قرمزياً، وقد بدت منه شعيرات قليلة هربت من تحت غطاء الرأس، فأكسبتها الكثير من الوقار.

غصة في النفس

– ما اسمُكِ؟

رفعتْ نصف حاجب تتفحّصُ وجهي، وأجابت:

– ليس لي اسم.

ابتسمتُ على مضض، وأضفت:

– من أي مكانٍ هجرتِ؟

– سري كانيه (باقتضاب).

– حدثيني عن رحلة الهجرة.

– اِذهبْ من هنا.

أدارت ظهرها وتحركت بتثاقلِ عُمرٍ مرّ كالسحاب، ابتعدت عنّي، متوجسةً، عِدّة خطوات، ووقفت متجاهلة وجودي، تُسرّحُ النظرَ في الأفقِ المجهول.

آمال العودة

اقتربتُ مِنها بهدوء، ووضعتُ يدي على كتفها، لأمنحها شيئاً من الطمأنينة:

– ستعودون إن شاء الله.

– إن شاء الله يا بُني.

بدأت أجاذبها أطراف الحديث بشيء من الدماثة، بلهجة “عربية” مُعتّقة، وهُنا كان المِفتاح.

بدأتْ تحدثني عن تلك “العصريَّة” التي خرجوا فيها من بيوتاتهم الطينية مخلّفينَ ما خفَّ وثقُلَ من محاصيلهم وأنعامهم، التي غدت بينَ ليلةٍ وضُحاها كأمس الذاهب، كما تحدثت عن جدّتها لأمّها “الأرمنية” التي لم تُورثها “حُمرة الخدين” على حدِّ قولها.

لم تذكر زوجاً أو ابناً في سياقِ حديثها، فضربتُ عن هذا الموضوعِ صفحاً؛ مراعاةً لخصوصيّةٍ لَم تُرِد التّطرُّقَ لها.

بحنجرة ملأتها الدموع أجابت عن سؤالي عن أمنيتها: “لا أريد أن أموت هنا، أريد العودة إلى منزلي وأن أُدفن في أرض آبائي وأجدادي”.

مكثتُ أجاذبها أطراف الحديث مُدّةً مِنَ الزمن، وختمتهُ، هي، بدعوات العجائز المُعتادة.

غادرتُها مُحمّلاً بتجربةٍ زاخرة بالكثير من الذكريات، التي باحت بها تقاسيمُ وجهها السبعيني أكثر من لسانها، الذي احتفظ باقتضاب إجاباته حتى آخر كلمة.

طلبتُ أن ألتقط لها صورة، فامتنعت في البداية، لكنها، سرعان ما اقتنعت من باب، اللامبالاة، فلم تتمسك بمعارضتها، فصوّرتها لمرة واحدة، وحتّى لحظة توديعها لم أُعِد لطرح سؤالي الأول، يبدو أنهُ لم يعُد يعني لكِلينا الكثير.

يحوي مخيم “واشو كاني” آلاف القصص، بعضها رويت لنا، وبعضها الآخر بقي طي الكتمان، لكن ملامح الأهالي كانت تبوح القهر والألم والمعاناة التي يعيشونها في المخيم؛ والأمل بالعودة القريبة؛ بعد تحرير أرضهم والخلاص من رجس المحتلين.

هذا وقد أنشأت الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا مخيم “واشو كاني” في 24 كانون الأول عام 2019، إثر الاحتلال التركي لمناطق سري كانيه وكري سبي/ تل أبيض، ومنذ ذلك الحين استمر توافد المهجرين من المناطق والقرى المحتلة على الخطوط الأمامية المتضررة جراء القصف التركي المستمر، حيث وصل عدد قاطني المخيم إلى 16,657 شخصاً بواقع (2,262 عائلة).