سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

التطبيع بين أنقرة ودمشق… مسارٌ خاطئ في عمر الأزمة السورية

حمزة حرب_

اللعب على المتناقضات والرقص على حبلي موسكو وواشنطن باتا سمة يستثمرها نظام دولة الاحتلال التركي بزعامة رجب أردوغان، ومن خلفه حزب العدالة والتنمية، وهذا يبدو جلياً في المرحلة الحالية والتي تشهد تقاربات في العلاقات بين حكومة دمشق ودولة الاحتلال التركي، التي استماتت الأخيرة في خلق أي فرص للتقارب، وذلك بعد أن اصطدم مشروع توسيع احتلالها لمزيدٍ من الأراضي السورية بفيتو دولي في الوقت الراهن، لذا باتت تبحث عن ركوب موجة التطبيع مع حكومة دمشق على حساب من زجت بهم في معتقلهم الكبير “المناطق المحتلة ” لتقدمهم جميعهم قرباناً لهذا التطبيع مقابل عرقلة مسار الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، التي تنعم بحالة من الرخاء السياسي، وتمضي قدماً لترسيخ ديمقراطيتها بانتخاباتٍ بلدية وإقرار عقدٍ اجتماعي توافقت عليه شعوب المنطقة، ولأن حامل لواء الحل “السوري – السوري” بات نواةً حقيقية لحل الملف السوري الذي سيُخرج الأطراف الخارجية بنتائج صفرية من المعادلة.
علاقاتٌ قائمة على المنفعة
التاريخ معقد وسلبي بين دولة الاحتلال التركي وسوريا، فذكريات الشام الكبير، وتحديداً سوريا ولبنان كانت بالغة السوء تجاه فترة الحكم العثماني، فبسبب الجوار الجغرافي والتعددية الدينية في هذه المنطقة ترسخت صورة بالغة السوء، وكانت حركات الاحتجاج والمعارضة في هذه البلاد هي الأشد ضد الدولة العثمانية، وهذا ما كرس حالة عداء شديدة سورية ضد الحكم العثماني، وقد ترك هذا إرثاً معقداً وحساسيات ملحوظة لا يمكن للعثمانيين الجدد بزعامة أردوغان نسيانها.
فهذه الحالة من العداء والتأزم ازدادت وتيرتها بعد استقلال سوريا الحديثة، وذلك على خلفية أسباب عديدة، أهمها ضم تركيا لأراضٍ واسعة من سوريا كلواء إسكندرون عام 1938 بمؤازرة الانتداب الفرنسي، واختلاف الخيارات والتحالفات الاستراتيجية لكلا البلدين، حيث اختارت تركيا السياسات والتوجهات الأطلسية الغربة الرأسمالية، في حين انحازت أغلب الحكومات السورية إلى التوجهات اليسارية والاشتراكية، لتبقى هذه العلاقات متدهورة منذ أن نالت سوريا استقلالها في العام 1946 وصولًا إلى نهاية القرن العشرين.
وخلال هذه الفترة دخل البلدان في أكثر من مرة في حالة من النزاع، كادت تفضي إلى حرب مدمرة بينهما، وكان يجسدها على الأرض تعزيز الوجود العسكري على الحدود وزراعة المزيد من الألغام على الجانب التركي، بحيث لا يستطيع أي كائن عبورها، وامتد النزاع ليشمل المياه، خصوصا خلال تسعينات القرن العشرين، حيث قامت تركيا بإنشاء سلسلة من السدود الكبرى على نهر الفرات، فحجزت القسم الأعظم من مياهه، وحجزت مياه نهر الخابور بأكملها حتى جفّ وتوقف جريانه في الأراضي السورية.
انتقل التأزم في العلاقات السورية التركية إلى مرحلة خطيرة من تنامي التعاون العسكري بين تركيا وإسرائيل، حيث نظرت القيادة السياسية السورية إليه بوصفه يهدف إلى وضع سوريا بين فكي كماشة، وأن الحلف العسكري والسياسي والأمني بين تركيا وإسرائيل يشكل ضغطا استراتيجيا عليها في مختلف المجالات، وأنه يشكل الأساس للحذر والريبة وخطرا يهدد الأمن الاستراتيجي لها.
وبحكم التوجه الاشتراكي اليساري لسوريا في تسعينات القرن الماضي ضغط الأتراك الطامحون بالسيطرة على حلب وصولاً إلى الموصل على غرار لواء إسكندرون ضغطوا باتجاه تعكير العلاقات بين حزب العمال الكردستاني، وحركات التحرر وحكومة دمشق حينها ليتوصل الجانبان إلى أسوأ اتفاقية في تاريخ البلدين وهي اتفاقية أضنة المشينة بحق الشعب السوري.
وهذه السياسة، التي منحت دولة الاحتلال الكثير من الامتيازات على حساب سيادة الأراضي السورية، وهو ما أفقد سوريا سيادتها على أراضيها، وظلت تدفع ثمنها الشعوب في سوريا إلى يومنا الحاضر وتسعى دولة الاحتلال من خلال الاستناد إلى اتفاقية أضنة، والميثاق الملّي لاحتلال المزيد من الأراضي السورية.
تاريخٌ من المتاجرة بدماء السوريين
مع اندلاع الأزمة السورية وتعميق جراح السوريين واستعصاء الأزمة على الحل؛ أطلقت الدول الفاعلة في المعادلة السورية مسار ما سمي بآستانا، الذي استُتر تحت عباءةٍ سياسية، بينما حقيقة الأمر أكده متابعون وخبراء أنه لعب دوراً محورياً في تغيير الديمغرافية السورية من خلال بسط مناطق نفوذ حقق كل طرف فيها من أطراف الصراع الدولي والإقليمي مصالحه فيها، فكان لحكومة دمشق أبعاد الفصائل المسلحة من تخوم دمشق، وهو ما خدم سياسات دولة الاحتلال عبر ترحيلهم لتكريس سطوتها وسيطرتها على مناطق واسعة من الأراضي السورية.
فمنذ بدء ما سمي بـ”مسار أستانا” الخاص بالملف السوري عام 2017، وانعقاده على طول السنوات الماضية، لم تُحقق نتائج مهمة يمكن البناء عليها للتوصل إلى حلول للملفات التي أثقلت كاهل السوريين، ومن أبرز هذه الملفات وقف إطلاق النار بين حكومة دمشق والمجموعات المتطرفة والمرتزقة، بل على العكس تماماً جرت مقايضة تركية على المناطق، وملف الإفراج عن المعتقلين في سجون حكومة دمشق لم يمضِ قدماً ولم يُحقق منه أي خطوة.
فانطلاقاً من هذه المعطيات لم يقدم أستانا إلا المزيد من الصفقات والمقايضات التي تبلورت على الأرض “الغوطة مقابل عفرين وريف حمص مقابل ريف حلب”، وهذه أدلة لحقيقة هذه اللقاءات، التي أودت بالسوريين إلى التهلكة وحولتهم إلى مرتزقة ونازحين ولاجئين تستثمر بهم دولة الاحتلال تارة بالضغط على أوروبا، وتاراتٍ أخرى بتحويلهم إلى وقود حربٍ في حروبها الخارجية في ليبيا وأذربيجان والقرن الأفريقي.
هذه المتاجرة لا زالت مستمرة لتطرح ورقة المجموعات المتطرفة والمرتزقة على طاولة المقايضات في وقتٍ تحاول فيه دولة الاحتلال ركوب موجة التطبيع مع حكومة دمشق، وتقديمهم قرباناً على طبقٍ من ذهب للحصول على مكاسب ميدانية على حساب السوريين في شمال وشرق سوريا، بعد أن فشلت محاولاتها في زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة.
حكومة دمشق كثيرا ما تحدثت عن أن أي تقارب سيكون بعد انسحاب الاحتلال من الأراضي السورية، بينما تسعى دول فاعلة كالجانب الروسي على سبيل المثال إلى التقليل من سقف هذه المطالب، فمن مصلحة موسكو التي تعدُّ بوابة روسية للتجارة مع العالم، وكان ذلك باتفاقية الحبوب والغاز الروسيين بعد الحرب الأوكرانية والمقاطعة الدولية لموسكو أيضاً تكمن المصلحة الروسية في السيطرة والهيمنة على الطرق التجارية في سوريا M4 و M5، لما لها من تأثير على اقتصاد حكومة دمشق كونها بوابة للبضائع التركية وبشكلٍ طبيعي الروسية إلى دول الخليج وأفريقيا “السوق البديل عن السوق الأوروبية”.
لذا؛ تحاول موسكو ومؤخراً العراق الذي دخل على خط الوساطة لهذا التطبيع أيضاً لمصالح اقتصادية وذلك بعد إعلان رئيس وزرائه، محمد شياع السوداني، أن بلاده تعمل على ترتيب اجتماع بين مسؤولي البلدَين لبحث سبل إنهاء الخلاف بينهما وإقناع حكومة دمشق في التنازع عن مطالبها لفتح باب التطبيع المستمر، وكان آخر هذه المحاولات رعاية موسكو للقاءٍ أمني عسكري في قاعدة حميميم الجوية الروسية في اللاذقية، والتي خرجت منه دولة الاحتلال التركي بسيلٍ من التصريحات، بأن التطبيع بات قاب قوسين أو أدنى، ما قيمه متابعون بأنه بروبوغندا يراد منها كسر عزيمة وإرادة الإدارة الذاتية في إقليم شمال وشرق سوريا.
أما العراق يرى في نفسه وسيطاً خارجياً ويحاول تصدير هذه الصورة لسياساته الخارجية مستنداً إلى دوره في الوساطة بين السعودية وإيران، لكن الأمر حسب خبراء لا يستقيم على هذا النحو خصوصاً أن الفضل في الاتفاق المتحقّق بين طهران والرياض يعود بالدرجة الأولى إلى الصين، فضلاً عن أن طهران والرياض كانتا تسعيان أصلاً إلى التقارب الجدّي، فيما شكّلت بغداد مكاناً مقبولاً لالتقائهما في المقابل، فإن المواقف الصادرة من كلا الجانبين لا توحي برغبة جدية في حلّ المشكلة الخلاف في الوقت الراهن؛ لأن ملف التطبيع معقد ومتشعب، ولن يحل بجرة قلم.
إخفاقات حكومة دمشق في إدارة الأزمة
بينما حكومة دمشق المتصدعة داخلياً وخارجياً وتقبع تحت ضغطٍ اقتصاديٍ كبير وعقوباتٍ خانقة وجبهاتٍ داخلية مفتوحة، تحاول اللعب على هذا المسار للضغط على الأطراف السورية. لذا؛ خففت من حدة خطابها الموجه ضد دولة الاحتلال والتنازل من المطالبة بالانسحاب الكامل إلى إعلان مسبق من دولة الاحتلال عن مجرد “النية” بالانسحاب من سوريا، للدخول في مفاوضات على أعلى مستوى.
على الجانب الأخر يقبع الجنوب السوري كجمرٍ تحت رماد بدت شراراته تتطاير لتحرق ما حولها من خلال محاولات حكومة دمشق التعامل بالآلية ذاتها، التي تعاملت معها بحراك 2011 وبالتالي هذه الحكومة المتأزمة في الجنوب وشمالها الغربي محتل، وداخلها يقبع فيه السوريون تحت خط الفقر تحاول البحث عن متنفسٍ لها من خلال تغاضيها عن احتلال الأراضي السورية من عفرين إلى سري كانيه كما حدث مع الجولان في الجنوب ولواء إسكندرون في الشمال للمساهمة في الضغط على إقليم شمال وشرق سوريا الحامل لمشروعٍ وطني شامل لإنهاء المعاناة السورية.
فبالعودة إلى مسار العلاقات المتأزمة بين دولة الاحتلال وحكومة دمشق وحالة الجليد، التي ضربت مسار العلاقات علنياً بقيت الأوضاع متأزمة لغاية أواخر العام 2021 حيث بدت تطفو على السطح بوادر ذوبان الجليد بين الجانبين حكومة دمشق ودولة الاحتلال، حيث التقى وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو وزير خارجية حكومة دمشق فيصل المقداد في قمة حركة عدم الانحياز، واستؤنفت العلاقات بين وكالات المخابرات في البلدين ليصل الحال في آب من العام 2022 إلى دعوة دولة الاحتلال على لسان جاويش أوغلو للمصالحة بين حكومة دمشق، ومن وصفها بالمعارضة في إشارة منه إلى المرتزقة المدعومة من دولة الاحتلال.
نشرت صحيفة تركيا الرسمية خمسة شروط وضعتها حكومة دمشق لاستئناف العلاقات الدبلوماسي حينها:
– عودة سيطرة الحكومة على إدلب.
– نقل إدارة معبر باب الهوى الحدودي ومعبر كسب الجمركي إلى سلطات حكومة دمشق.
– فتح ممر تجاري بين دمشق ومعبر جيلفي غوزو.
– تتمتع دمشق بالسيطرة الكاملة على ممر النقل الاستراتيجي المعروف باسم M4، الواقع على الخط بين حلب واللاذقية، ودير الزور والحسكة في شرق سوريا.
– تقدم دولة الاحتلال الدعم لسوريا فيما يتعلق بالعقوبات الأمريكية والأوروبية.
في المقابل، تريد أنقرة من دمشق:
– السماح لها بإنشاء منطقة محتلة تزج فيها اللاجئين السوريين لديها ولكن هذا ما عُدَّ ذراً للرماد في العيون لأنه جزء من سياسة التغيير الديمغرافي المستمر على الساحة السورية
ـ السماح لدولة الاحتلال ضرب مسار الإدارة الذاتية وإنهاء الحالة الديمقراطية التي يعيشها إقليم شمال وشرق سوريا
وبالأحوال كلها ستبقى حكومة دمشق خاسرة في هذا المسار لأن الاحتلال التركي لا يؤتمن جانبه، وكان التحول الجذري في العلاقات بين الجانبين عام 2011 خير دليل على مكر وخداع دولة الاحتلال بينما تبقى حكومة دمشق تتخبط في سياساتها الداخلية والخارجية، وهو ما ينعكس سلباً على مستقبل السوريين وسوريا عموماً بينما الماء بين يدي حكومة دمشق متمثلاً بالرؤية الوطنية، التي تضعها مسد بحلٍ سوري سوري إلا أن الظمأ ينهك شفتيها بفقدانها السيطرة على قرارها وانغماسها في رمال المصالح الدولية المتحركة.