سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

التخبط الدولي إزاء المسألة السورية

د. خطار أبو دياب ـ صحيفة العرب –

انتهت الجولة الثانية عشرة من محادثات آستانا، الجمعة 26 نيسان المنصرم دون تحقيق تقدم بشأن تشكيل اللجنة الدستورية، ووقف التصعيد العسكري للنظام السوري وروسيا على محافظة إدلب رابع مناطق خفض التصعيد، ويتزامن فشل هذا الرهان الروسي على الحل في سوريا طبقاً لمسار آستانا، مع عدم وجود خط واضح أو استراتيجية أمريكية حيال الوضع السوري نتيجة المواقف المتأرجحة التي تعتمدها إدارة الرئيس دونالد ترامب تجاه مجمل النزاعات في المنطقة. يدل ذلك، بالإضافة إلى عجز منظمة الأمم المتحدة وكسوف الأدوار الأوروبية، على تخبط دولي حيال مجريات ومخرجات المسألة السورية، زيادة على الوظيفة الجيوسياسية للنزاعات والحروب السورية في إعادة تركيب الإقليم وتغيير وجهه يتبين التخبط والانقسام الدولي على الصعيد الاقتصادي. وبرز التنافس في الفترة الأخيرة ليس فقط في السيطرة على المرافئ والمرافق الحيوية بين قوى الأمر الواقع الخارجية والداخلية بين روسيا وإيران وتركيا، والولايات المتحدة ودول التحالف الداعمة لقوات سوريا الديمقراطية، بل كذلك في الوجود المستقبلي خلال عملية إعادة الإعمار وما بعدها ويشمل ذلك الصين وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا ضمن القوى المتصارعة على الساحة السورية.
في الأشهر الأخيرة ساد انطباع أن “الحروب السورية” أسفرت عن انتظار النظام ومحوره اقتراب التطبيع العربي معه، خاصة إثر زيارة الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير إلى دمشق في كانون الأول الماضي، لكن التطورات الأخيرة برهنت على صعوبة تحويل روسيا الانتصارات الميدانية إلى حل سياسي يسمح بإعادة الإعمار والاستقرار. وسلط تفاقم الأزمة الاقتصادية داخل سوريا الضوء على تأثير سلاح العقوبات الأمريكي وبين أنه لا أفق لحل واقعي في سوريا من دون الحد الأدنى للوفاق الدولي وعنوانه القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدولي وفق مسار جنيف، يتأكد المأزق مع تفاقم المشهد الميداني السوري الذي يبقى معقداً بصورة لم يتوقعها أي طرف عندما بدأ الحِراك الشعبي في آذار عام 2011.
تتقاسم الأجواء السورية وتحلق فيها طائرات أجنبية روسية وإسرائيلية وأمريكية وتركية، وتواصل واشنطن وحلفاؤها دعم وجود “قوات سوريا الديمقراطية” بعد إنهاء داعش عسكرياً للقضاء على الفكر المتطرف الذي تركه، فيما يواصل جيش النظام السوري مدعوماً من حلفائه الروس قصف محافظة إدلب خاصة منطقة اتفاق الهدنة بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان في 17 كانون الأول الماضي، بينما يواصل الجيش التركي تدعيم وجوده في الأراضي السورية التي دخلها بين 2016 و2018، ويفاوض واشنطن على “المنطقة الآمنة” شرق نهر الفرات. وأتى قرار الرئيس الأمريكي حول الجولان وردة الفعل الروسية الخافتة تجاهه (في موازاة وساطة تبادل الرفات والأسرى بين الجانبين السوري والإسرائيلي) ليبينا أن التقاطعات الدولية، كما الصراع الأهلي والحروب بالوكالة، دارت على حساب كل الشعوب السورية.
والأدهى من ذلك صعوبة سلوك درب التسوية العملية؛ لأن الانتقال من مسار آستانا إلى مسار جنيف كما ترغب واشنطن غير مضمون النتائج؛ لأن اللعب على تضارب المسارات والمصالح يمكن أن يكون وسيلة للوصول إلى تقاسم مناطق النفوذ الاستراتيجي والاقتصادي، وربما الوصول إلى تغيير الخرائط وتكريس التقسيم الواقعي الذي يتمظهر على الشكل الآتي:
الجولان المحتل وجواره منطقة آمنة لإسرائيل، منطقة آمنة للاحتلال التركي ووجود عسكري لها في بعض شمال وشرق سوريا، وجود عسكري روسي وحماية لدمشق والساحل مع استثمار مرفأ طرطوس ومسعى لعرقلة التمركز الإيراني في اللاذقية، وجود عسكري وإشراف أمريكي – غربي على المناطق التي تسيطر عليها “قسد”، وكذلك وجود إيراني من جنوب دمشق إلى حلب وتغلغل في مفاصل النظام، حيث يصف مراقب غربي أن وضع نظام الأسد مع إيران يشبه وضع “التوأم السيامي” وأن الرهان على الفصل بينهما غير واقعي، لا يمكن تفسير الوصول إلى هذا الواقع من دون تحديد مسؤولية اللاعبين الأساسيين وفي المقام الأول واشنطن وموسكو. تراكم فشل الولايات المتحدة في أدائها السوري منذ 2011 إذ لم يكن الملف السوري يوماً أولوية على أجندة واشنطن (باستثناء صلته بأمن إسرائيل) وراهنت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما عبثاً على أن روسيا ستواجه في سوريا أفغانستان أخرى، وكانت تهادن في سوريا نظراً إلى تركيزها على “صفقة عصر أوباما” مع إيران.
من جهته؛ عزز التدخل العسكري الروسي ميدانيّاً وضعَ نظام الأسد، وجعل روسيا الطرف الدولي الرئيسي هناك سياسياً وميدانياً، وبينما كانت المحاولات الدبلوماسية لحل الحرب في سوريا خلال عهد الرئيس أوباما تتركز على “عملية جنيف”، نجحت روسيا في جعل سوتشي وآستانا بديلا عن جنيف. وبرهن هذا التحول على عدم وجود سياسة أمريكية واضحة تجاه النزاعات في سوريا خلال عهد باراك أوباما، ولا تبدو القراءة أيسر مع المواقف المتناقضة التي يتخذها الرئيس دونالد ترامب، والتي تحاول المؤسسات الأمريكية تقنينها أو إعادة صياغتها لأنها ستنعكس على النزاعات الأخرى في المنطقة؛ لأن هذا النزاع هو الذي سيقرر كيفية تعامل إدارة ترامب في الشهور المقبلة ليس فقط مع سوريا، بل أيضاً مع تركيا وإيران وروسيا والكرد وشمال وشرق سوريا. ولذا؛ وبالرغم من قرار البيت الأبيض الانسحاب من سوريا، توصل المعنيون في واشنطن إلى بلورة توافق يقضي بأن الإخلاء الكامل للقوات من سوريا يعني أن الولايات المتحدة قد خسرت كل شيء في سوريا، وأن روسيا وإيران وتركيا سوف تقرر مستقبل سوريا، وهذا ما لا يحبذه الكثير من القادة الأمريكيين.
يبرز هذا التوجه المرحلي الأمريكي في التصريحات الأخيرة للسفير جيمس جيفري، ممثل وزير الخارجية الأمريكي الخاص إلى سوريا، عن مسار آستانا الذي “لم يحقق أي نتيجة خلال عام ونصف العام من انطلاق أولى جلساته”، ولفت جيفري إلى “أن مجموعة آستانا لم تستطع إقناع النظام السوري بالتقيد بالقرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن عام 2015”. وأوضح أن الحل في سوريا يتمثل في “تخفيض حدة التدخل العسكري”، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة نجحت في تحقيق ذلك وفيما يشبه خارطة طريق مبدئية، حدد المسؤول الأمريكي أنه بعد تحقيق تقدم في الهزيمة النهائية لداعش، يتطلب الأمر الآن تنشيط العملية السياسية وفق مسار جنيف بعد فشل المسار الآخر. ولا يمكن فصل هذا السياق عن جهود واشنطن في التفاوض مع أنقرة حول “تفاصيل المنطقة الآمنة” مع إعطاء وعد للجانب الكردي السوري والإدارة الذاتية يتمثل في اعتبار “قوات سوريا الديمقراطية” جيشاً ممثلاً للشعب السوري، فواشنطن كما دول أوروبية وروسيا تريد إعادة بناء الجيش السوري وضم الكرد إليه كجيش وطني.
وفي مرحلة ما بعد هزيمة داعش في الباغوز تتفاوض واشنطن مع حلفاء أوروبيين على نشر قوة دائمة للتحالف الدولي في التنف وشمال وشرق سوريا، من خلال هذا الوجود العسكري المباشر والحليف ستستخدم واشنطن هذه الورقة، بالإضافة إلى سلاح العقوبات وإعادة الإعمار للتأثير على موسكو، ولعب دور أساسي في صياغة المستقبل السوري على المدى القصير والمتوسط. ومن دون شك ستكون مسألة الوجود العسكري والأمني الإيراني محور مناورات وتجاذبات الشهور القادمة وليس من المستبعد أن تعمل إسرائيل على تسهيل تفاهم أمريكي – روسي في سوريا على حساب طهران. ويمكن لهذا السيناريو أن يؤجج مواجهات ويخلط بعض الأوراق، من جهة أخرى يخفي اختبار القوة حول إدلب صراعا أمريكياً – روسيّاً حول تموضع تركيا حيال مجمل المسألة السورية. تشهد تصفيات “الحروب السورية” على تعقيدات إضافية للعبة الأمم (اللعبة الكبرى الجديدة للقرن الحادي والعشرين انطلاقاً من المشرق) ولم يسبق وصول التخبط الدولي إلى هذا المستوى من الاحتدام والعجز في سياق الاضطراب على عدة مسارح دولية أخرى بدءاً من إيران وليبيا إلى أوكرانيا وسريلانكا وفنزويلا ومناطق أخرى.