سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

الاتفاقات الإبراهيمية تفشل في إنهاء الصراع الفلسطيني ـ الإِسرائيلي.. فما هو الحل؟

يحيى الحبيب_

يمثّل التصعيد المستمر بين حركة حماس وإسرائيل، ضربة كبيرة لمسار الاتفاقات الإبراهيمية، نظراً للإخفاق بتحويل التطبيع إلى حقيقة وتطبيق عملي بين الشعوب والثقافات، مما أدخل مسار هذه الاتفاقات في حالة جمود وأظهر ضعف موقف الدول التي أبرمت اتفاقات مع إسرائيل، فما هو الحل الأفضل لهذا الصراع؟
انشغلت القوى الدولية والإقليمية خلال الفترة الماضية بمسار التطبيع العربي ـ الإسرائيلي والذي كان عبارة عن إبرام اتفاقات تحمل اسم الاتفاقات الإبراهيمية ونسب ذلك إلى اسم النبي إبراهيم، في إشارةٍ إلى إخاء الأديان وتعاونها إلا أن هذه الاتفاقات كانت عبارة عن صفقات اقتصادية وتجارية وسياسية بين إسرائيل والأنظمة الحاكمة للمنطقة دون أن يكون هناك تطبيع بين شعوب المنطقة.
ومنذ إبرام هذه الاتفاقات، بدءاً من الإمارات ثم دول عربية عديدة وصولاً إلى النقاش حول انضمام السعودية إلى هذا المسار عبر الحديث عن صفقة ضخمة بقي التشكيك في نجاح هذه الاتفاقات قائماً، وجاء التصعيد الأخير في غزة ليشكّل ضربة قوية لها.
أسباب هذا الإخفاق
في ظل هيمنة بعض الفصائل المتشددة في الأراضي الفلسطينية وخاصةً في غزة عبر حماس والجهاد الإسلامي وغيرها وتبعية هذه الفصائل للإسلام السياسي والإخوان المسلمين، وصل أيضاً إلى حكم إسرائيل اليمين المتطرف الذي عمل منذ الأيام الأولى في الحكم على شن الاعتداءات المتكررة على الأماكن المقدسة والتهديد بالقيام بعملية تهويد جديدة وقام بدعم بناء مستوطنات جديدة، في المقابل كان الهجوم الأخير لحماس وتوثيق ارتكاب بعض الانتهاكات بحق الإسرائيليين، كل ذلك ساهم في تكريس الكراهية والحقد بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي ومن وراء ذلك الكراهية بين شعوب العالم على خلفية الجدل حول هذه الأحداث.
وتسبّب التصعيد الأخير بانهيار أي جهود لتحويل التطبيع الرسمي بين الحكومات العربية التي أبرمت اتفاقات مع إسرائيل إلى تطبيع بين شعوب البلدان العربية وإسرائيل والديانات الإسلامية واليهودية، وبالتالي فقد التطبيع أهميته وجوهره الذي هدف للوصول إليه، ونتيجة لبقاء التطبيع في الإطار الرسمي وسط بقاء الكراهية بين الشعوب والأديان فإن هذا التطبيع سيبقى مُهدداً واحتمالية انهياره قائمة في أي مرحلة.
إن بقاء الكراهية والعنف والتصعيد من قبل القوات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والأماكن المقدسة ساهم بشكلٍ واضح في دفع الدول التي أبرمت اتفاقات مع إسرائيل لتصدر بيانات منددة بالعمليات الإسرائيلية وبالتالي، فإنه وعلى الرغم من عدم الإعلان بشكلٍ رسمي أن الاتفاقات الإبراهيمية قد فشلت إلا أنه وفي الحقيقة تمر في مرحلة صعبة.
وبالتالي، حتى وإن لم يتم الإعلان عن انهيار الاتفاقات السابقة إلا أن مسار التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل يشهد حالة من الجمود، حيث يستبعد إلى حدٍ كبير أن تنضم دول أخرى إلى هذا المسار حتى أن السعودية التي سعت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لإقناعها بإبرام اتفاقية تطبيع وتقديم العروض والإغراءات لها إلا أنها، وحسب ما يتبيّن، تراجعت عن ذلك، وخاصةً بعد أن تبيّن أن الدول العربية التي لم تنضم إلى مسار التطبيع يبدو موقفها أكثر قوة من الدول التي أبرمت اتفاقات مع إسرائيل.

تداعيات ذلك
بعد الحرب في غزة وتأثيرات ذلك على الاتفاقات الإبراهيمية، فمن المتوقع إلى حدٍ كبير أن تتجمد أي مخططات لإقامة تعاون اقتصادي وتجاري بين الدول العربية وإسرائيل بما فيها الدول التي أبرمت اتفاقات مع إسرائيل؛ لأن هذه الاتفاقات ستكون تحت الأضواء وسيتم تصويرها على أنها دعم لإسرائيل وبالتالي ستكون الدول العربية مُحرجة أمام الرأي العام، وفي هذا السياق من المتوقع أن يؤثر هذا التصعيد على الممر التجاري الجديد من الهند إلى الشرق الأوسط وأوروبا، حيث يجب أن يمر من ميناء حيفا وبالتالي فإن أهم نتائج هذه الاتفاقيات والتطبيع تواجه تحدي التجميد على الأقل.
في ظل ازدياد حالة الكراهية واللعب على الجانب الديني وتحذيرات أجهزة الاستخبارات والأمن لدى عدة دول منها الولايات المتحدة الأمريكية من أن التطورات الأخيرة قد تكون ملهمة لجماعات إرهابية ومتطرفة لشن هجمات، فإنه لا يُستبعد أن تشن جماعات إرهابية ضد الدول التي أبرمت اتفاقات مع إسرائيل وبالتالي تصاعد نشاط الجماعات الإرهابية.
الحل
ممّا سبق، يتبيّن أنه وعلى الرغم من عدم الإعلان عن فشل مسار الاتفاقات الإبراهيمية؛ فإن هذا المسار بات على حافة الانهيار خاصةً في ظل الإخفاق في ترسيخ هذا التطبيع كحقيقة وتعاون سياسي واقتصادي وثقافي وشعبي، بالإضافة إلى الضغوط الاجتماعية والسياسية وربما الاقتصادية في المرحلة المقبلة على الدول التي أبرمت هذه الاتفاقات.
القائد عبد الله أوجلان وفي مانيفستو الحضارة الديمقراطية “المجلد الخامس” أكد أن أحد مصادر أزمة الشرق الأوسط، هو تشييد الدول القومية العربية وإسرائيل بشكلٍ متزامن، مشيراً إلى أن إنكلترا استخدمت الشيوخ العرب ككبش فداء، عندما باشرت التمشيطات العسكرية على الإمبراطورية العثمانية بدءاً من مطلع القرن التاسع عشر، كما باشرت دعم الدولتية القومية العربية، مستفيدة من مساندة الشيوخ الذين يمثّلون قمة الهرم لعلماء الدين المسلمين، وأن المرحلة المبتدئة بالتمردات قد استمرت مع أنظمة الانتداب بعد الحرب العالمية الأولى، لتنتهي إلى التشييد التام للدول القومية مع الحرب العالمية الثانية، حيث تمت تصفية الإمبراطورية العثمانية في تلك الأثناء، ليتكون (أو ليتم تكوين) فراغ شاسع في المنطقة حصيلة ذلك.
ويؤكد القائد أن تشييد وإعلان إسرائيل ليس حدثاً اعتيادياً، فقد ولدت إسرائيل كقوة مهيمنة نواة لهيمنة الحداثة الرأسمالية، التي ملأت فراغ السلطة الناجم عن تحويل الإمبراطورية العثمانية والملكية الإيرانية إلى دول قومية صغرى تابعة، بعدما كانتا آخر قوتين مهيمنتين في المنطقة.
كما يعتبر القائد أن تشييد إسرائيل كقوة مهيمنة نواة أمر بالغ الأهمية، فهذا مفاده أنه سيتم الاعتراف بشرعية الدول القومية الأخرى في المنطقة في حال اعترفت هي بوجود إسرائيل كقوة مهيمنة، وأنه في حال عدم اعترافها بها، فسيجري تجييرها وإرهاقها بالحروب إلى أن تعترف بها، ونظراً لأن الجمهورية التركية كانت أول من اعترفت بإسرائيل، فقد اعترفت بها دولاً قوميةً شرعية، وأدرجت بالنظام القائم بناءً على ذلك.
ويشير القائد إلى أن الحروب والاشتباكات مع العرب ضمن إطار القضية الفلسطينية، فهي على علاقة وثيقة بالوجود المهيمن لإسرائيل داخل المنطقة، إذ سوف تظل هذه الاشتباكات والمؤامرات والاغتيالات والحروب متأججة إلى حين الاعتراف بهيمنة وسيادة إسرائيل.
وينبّه القائد إلى أن أعقد وأولى القضايا التي تعاني منها المجتمعات العربية، تنبع قبل كل شيء من تقسيم العرب إلى اثنتين وعشرين دويلة قومية، مشيراً إلى أن هذه الدول لا تستطيع الذهاب في دورها أبعد من كونها تنظيماً عميلاً جماعياً للحداثة الرأسمالية، وبأن وجودها بحد ذاته يعد الإشكالية الرئيسة على الإطلاق بالنسبة للشعوب العربية. بالتالي، فالقضية العربية مرتبطة ببناء وتأسيس الحداثة الرأسمالية في المنطقة. ولا إشكالية جدية إلا في هذا الإطار، أي ارتباط بإسرائيل بوصفها قوةً مهيمنةً في المنطقة ارتباط بالحداثة الرأسمالية، وأن علينا ألا نتغافل عن أن القوى التي أشادت إسرائيل هي نفسها التي أشادت الدول القومية العربية الاثنتين والعشرين. بالتالي، فتجاذباتها وتنافراتها مع إسرائيل تتسم بماهية التمويه.
ويعتبر القائد أن جميع المقاربات الإسلامية القوموية، التي يُراد إحلالها محل الحداثة الرأسمالية، هي محض رياء؛ سواء الإسلام الراديكالي منها أم الإسلام المعتدل أم إسلام الشيعة. فهذه النزعة الإسلامية أداة أيديولوجية خاصة بالرأسمالية، ولا علاقة لها بالحضارة الإسلامية، بل هي نسخة مشتقة من القوموية المتصاعدة في كنف هيمنة الحداثة الرأسمالية اعتباراً من مطلع القرن التاسع عشر، وإذا لم يتخط تبعيته للحداثة الرأسمالية، فلن يتخلص الصراع العربي ـ الإسرائيلي أو الفلسطيني ـ الإسرائيلي من التشبه بصراع الفأر والقط. فما يتجلى في النتيجة هو هدر طاقة الحياة لدى الشعوب العربية قاطبة في معمعان هذه الاشتباكات الواضحة النتيجة سلفاً، والتي تدور رحاها قرابة قرن بأكمله.
يقول القائد إن أقوى وأصح خيار للشعوب العربية، هو براديغما العصرانية الملائمة للحقائق والوقائع التاريخية والاجتماعية لشعوب الشرق الأوسط جمعاء. والعصرانية البديلة من أجل الشعوب، هي العصرانية الديمقراطية التي لطالما كافحت ضد الحداثة الرأسمالية، والتي تتألف من الأمة الديمقراطية ومن مجموع الحركات الاشتراكية والأيكولوجية والفامينية والثقافية.
كما يطالب القائد إسرائيل بدورها بأن تضع تجاوز الحداثة الرأسمالية نصب عينيها، إن كانت تود الخلاص من حالة الأسر للنظام الذي أوجدته، وتعتبر العصرانية الديمقراطية خياراً يشكّل طريق الحل المستدام والوطيد ضمن معمعة الشرق الأوسط. ليس من أجل القضية اليهودية وحسب، بل ومن أجل قضية دولة إسرائيل المحاطة بالوحوش القوموية والدينية المتشددة، التي خلقتها بكلتا يديها.