إيبلا…بوابة تاريخ منسيّة

إعداد/ عبدالرحمن محمد –

تعتبر “إيبلا” من أشهر الممالك العريقة التي ازدهرت في شمال غرب سوريا في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وباكتشافها تم الوصول إلى حقائق ودلائل أماطت اللثام عن الكثير من تاريخ سوريا والمنطقة، لتصبح سورية المصدر الرئيس الثالث للتاريخ الحضاري والسياسي في الشرق الأدنى. فقد كانت هناك الكثير من التساؤلات لدى علماء الآثار والتاريخ عن الفراغ الحضاري المستغرب في البقعة الأرضية الممتازة الواقعة بين أوغاريت وحلب وماري ودمشق وغيرها من المدن الحضارية المشهورة.

الموقع والأهمية التاريخية:

 تعني كلمة “إيبلا” الحجر الأبيض، وهي تسمية أطلقت عليها لصخورها الكلسية البيضاء، وتقع المملكة في “تل مرديخ” قرب بلدة سراقب التابعة لإدلب على بُعد خمسة وخمسين كيلو متراً جنوب غرب حلب، وقد تولت بعثةٌ ايطالية التنقيب في الموقع برئاسة عالم الآثار “باولو ماتييه” عام 1964م، وكشفت الكثير من أسرار التاريخ المجهول للمنطقة، كونها صلة الوصل في المنطقة من الناحية الجغرافية والتاريخية.

هذه المملكة بسطت نفوذها على المناطق الواقعة بين هضبة الأناضول شمالاً وشبه جزيرة سيناء جنوبًا، ووادي الفرات شرقًا وساحل المتوسط غربًا وأقامت علاقات تجارية ودبلوماسية وثيقة مع دول المنطقة والممالك السورية ومصر وبلاد الرافدين، وكان النفوذ التجاري لـ “إيبلا” يمتد حتى صحراء سيناء وبلاد الشام وقبرص في الغرب، وفي الشمال إلى الأناضول وفي الشرق حتى مرتفعات ما بين النهرين وكانت حضارة إيبلا وثقافتها مهيمنة اقتصادياً وسياسياً على مناطق كثيرة من سورية، تمتد بين جبال لبنان في الغرب وحتى بادية الشام في الشرق، وبين جبال طوروس في الشمال إلى منطقة حمص في الجنوب حتى نهر الفرات. وكانت بفضل موقعها في وسط الخطوط التجارية، صلة الوصل بين مصر ومناطق ما بين النهرين وإلى ما بعد جبال إيران حتى الهند.

وقد مرت المملكة بثلاث حقب زمنية الأولى بين 2300-2400 والثانية 2000-2300 والثالثة 1600-2000 قبل الميلاد، وشكلت أساساً لبناء الحضارة السورية وكان لها ارتباط وثيق مع مراكز الحضارات وخاصة الحضارة الفرعونية.

مكتبة ملكية وكنوز تاريخية:

من أعظم وأهم  ما تحويه آثار مملكة “إيبلا” مكتبتها التي ضمت ستة عشر ألفاً ونيفً من الرقم، وهي ألواح طينية رصفت ووزعت حسب موضوعاتها على رفوف خشبيه، طال بعضها الضرر ومنها1800 رقيم بحالة سليمة و4700 جزء رقيم وحوالي عشرة آلاف كسرة كبيرة أو صغيرة، ومن خلال بقايا الخشب المتفحم يظهر إن المكتبة دمرت بفعل حريق هائل قام به الملك الآكادي “نارام سن” في عام 2250ق.م. وذلك مذكور في وثائق أكادية على لسانه: “إني أنا الذي فتح إيبلا دار مانوم ولم يكن بإمكان أحد قبلي أن يقوم بهذا العمل».

وكذلك المعبد ومحفوظات القصر من الوثائق والسجلات الرسمية المدوَّنة على الألواح الطينية بالخط المسماري، وكذلك العثور على أول قاموس عرفته البشرية وعلى أول معاهدة مكتوبة للسلام بين مدينتي إيبلا وأبرسال وأيضاً اكتشاف أطول قصيدة شعرية في المدينة. التي توضح الكثير من تاريخ سورية والشرق الأوسط والإنسانية في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد.

اكتشاف إيبلا والأرشيف الملكي لهذه المدينة قدم للبشرية واحداً من أقدم المكتشفات والممالك الواقعة في الشرق الأدنى من عصر البرونز الأمر الذي يجسد أهمية البحث العلمي في الحوار بين الشعوب والثقافات.

القصر الملكي وأسرار دفينة:

يعتبر القصر الملكي من أهم المكتشفات ويعود تاريخه للعصر البرونزي القديم في الفترة ما بين 2300-2400 قبل الميلاد حيث كان يضم مركزاً إدارياً وساحة واسعة مخصصة للتبادل بين القوافل التجارية. والقسم الإداري منه يقع في الجهة الغربية ويتضمن البلاط الكبير مع مدخل معمد وقاعة للاستقبال فيها منصة لعرش الملك مبنية من الآجر المجفف بالشمس، ويعود تاريخ القصر الغربي الكبير في أسفل المدينة إلى نحو سنة 1900 ق.م وكشف عنه عام 1978 وهو يغطي مساحة تزيد على ثلاثة أرباع الهكتار وكذلك كشفت في هذه المنطقة مدافن (نكربول) تضم قبور أمراء ونبلاء.

اللغة السامية لغة المملكة الرئيسية:

كانت اللغة السامية هي اللغة الرسمية لسكان مدينة إيبلا وكثير من المدن التي عاصرتها وجاورتها في منطقة الشرق الأوسط. ولغة إيبلا هي أقدم لغة سامية مكتوبة حتى الآن، وذلك لأن وثائق تل مرديخ تشمل جيلين سبقا عصر الملك الأكادي صارغون الأول، الذي كان ملكاً في بلاد الرافدين، وهو أول من سجل أحداثه باللغة الأكادية التي هي أقدم لغة سامية شرقية معروفة.

كانت مملكة “إيبلا” تستخدم الخط المسماري الذي اخترعه السومريون ثم استخدمه الأكاديون في العراق. لكن اللغة الإيبلائية كانت لغة سامية من حيث التركيب ولها خصائص تميزها عن السومرية مع أنها أخذت واستعارت الكثير من الكلمات السومرية، وقد اكتشفت في “إيبلا” قواميس تبدو فيها كلمات باللغة الإيبلائية. وكانت تكتب من اليسار إلى اليمين، مع ما يقابلها من كلمات في اللغة السومرية. وقد ساعدت هذه القواميس، التي هي أقدم قواميس في العالم، على معرفة معاني عدد كبير من المفردات السومرية التي كانت مجهولة.

كان التعليم في إيبلا في مكانة راقية وكذلك الأدب، وقد شوهدت الكثير من الرقم التي دونت عليها ملاحم وقصص كالملاحم السومرية “كلكامش” وقصص الخليقة والإنسان والطوفان وغير ذلك.

أهم الاكتشافات الأثرية:

اكتشفت إلى جانب ما ذكرناه مجموعة من التماثيل تعود إلى بداية الألف الثاني ق.م، “الفرديسيا” وهي نموذج معبد أحدث محفورة بشكل طبيعي على الصخور مكونة من فتحتين للدخول والخروج وهي مليئة بالقطع الأثرية وبعض الأواني الفخارية والدمى الطينية والأدوات المعدنية ومجموعات من العربات الطينية وأفاعٍ .

معبد في الزاوية الجنوبية الشرقية ومجموعات من المباني الملحقة بالمعابد مكنت الباحثين من الحصول على معطيات هامة في فترة زمنية لم تكن معروفة في إيبلا ومعرفة الخصائص المعمارية الدقيقة الأكثر للحياة والمنشآت الدينية وحوالي 16000رقيم في المكتبة.

كانت إيبلا أكبر مدينة في عصرها. فقد بلغت مساحتها 65 هكتاراً وبلغ عدد سكانها ورعاياها بحسب السجلات المكتشفة 260,000 نسمة. قدم اكتشافها الكثير للعالم ويعود تاريخ الرقم إلى الفترة الواقعة بين 2350 – 2250ق.م. وتعتبر أقدم وثائق في العالم وهي متعلقة بسجلات دولة. وقد كشفت هذه المخطوطات بحسب قول العالم الأثري جان مارجرون، أحد أعضاء البعثة عن عصر البرونز القديم في الألف الثالث ق.م. بينما كشفت السجلات المكتوبة في ماري عن عصر البرونز المتوسط، وكشفت سجلات أوغاريت عن عصر البرونز الحديث.

حققت وثائق “إيبلا”  ثورة في المعارف التاريخية عن الشرق الأدنى في الألف الثالث قبل الميلاد، هذه الفترة التي شهدت بناء الأهرامات في مصر أو ما يسمى بعصر الملوك، وشهدت الحضارة السومرية الأكادية العظيمة في الرافدين.