أم الشهيد.. في عيدها

سوزدار وقاص

تتضاءل مفاهيم العطاء كلها في حضرة الأم، وفي يومها لا بد أن نقف فخرًا للأمهات وخاصةً اللواتي ضحين بفلذات أكبادهن دفاعًا عن الوطن بوجه الأعداء، المحتلين والمغتصبين.
لقد شهد حي الشيخ مقصود في مدينة حلب أحداثًا دراماتيكية بين أعوام 2012 و2016، من الحرب، القصف، الدمار، الجوع، الهجرة، حملات مواجهة المرتزقة وتحرير حيي الشيخ مقصود والأشرفية، بفضل تضحيات الأهالي والمقاتلين الذين وهبوا حياتهم في سبيل الدفاع عن الأرض والعرض، وبعد مرور خمس سنوات على إنهائها وإخفاء صوت آخر رصاصة من ذاك الحي البسيط بجدرانه وأناسه، ما زالت ذكراها باقية في جسد وعقل كل من عاش مقاومتها، بعيدًا عن لغة الآلام.

أم “فدكار” المعروفة بين أوساط الحي بأم رزكار.. تنحدر من قرية بسيطة تابعة لناحية ماباتا في مقاطعة عفرين، شقيقة لخمس أخوات، وأم لستة أولاد، أحدهم مقاتل ضمن صفوف وحدات حماية الشعب، قدمت حياتها نذرًا لأولادها وأنشأتهم على المفاهيم السامية والعادات الصحيحة، وعلى فكر حركة التحرر الكردستانية، وقدمت أولاها خدمة لهم مثلها مثل آلاف العوائل.

في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات، عملت بكل ما وسعها لبناء منزل في أحد أحياء حلب العشوائية، وانتصرت.. نعم انتصرت بإصرارها وعزيمتها وإرادتها القوية.

احتضنت ضيوفها رفاق الجبال “Hevalên Çıya” كأولادها على مدار السنوات الخمسة والعشرين الماضية، احتضنتهم كأولادها كما تحتضن أرض عفرين الجريحة جذور الزيتون.

هي تلك الأم التي تشبثت بحيها أثناء الهجمات التي تعرض لها الحي، لم تهب قرع طبول الحرب القذرة التي دُقت، نعم إنها الأم التي رضعت من زيتون عفرين، فكيف تتخلى عن جذورها، القذائف تسقط على الحي من كل حدب وصوب، وتصر على البقاء صامدة.

صمدت صمود الجبال الراسيات، لقد كانت على يقين أن النصر آتٍ لا محالة، رفاق الجبال يدافعون عن الحي وأمهات الزيتون صامدات فكيف للنصر أن لا يكون حليفهم.

أم فدكار كانت تُحضر كل يوم وجبات الطعام لأبناء الحي المدافعين عنها، لمقاتلي الحرية الذين صنعوا من أجسادهم دروعًا حصينة، نعم إنه حي الشيخ مقصود، الذي تحول إلى قلعة، قلعة يكمل كل واحد فيها الآخر، يسعى الكل لبذل ما لديه لحماية الآخر.

تلك الأم التي صمدت في الحي رغم كثافة القصف وقذائف جهنم التي دمرت الحجر والبشر، دمرت كل شيء، صمدت مع زوجها لساعات تحت أقبية درج منزلها في الشارع الخالي من الأحاسيس، لم تكن تدري إن كان الموت سيخطفها أم أن الحياة ستسبقها وينقذونهما.

مقاومة شيخ مقصود غيرت موازين القوى في مدينة حلب والريف الشمالي، وأحدثت تغييرًا جذريًا في الحرب، تحولت إلى حرب شعبية، الكل شارك فيها، ولفتت أنظار العالم الحر، حيث صمدت تلك المرأة مع بقية النساء رغم ضراوة الهجمات، شاركت مع نساء أخريات من الحي لمدة أشهر في مطبخ عسكري، أيقنت بعظمة وقوة المقاتلين الذين وصفوها بـ”الأم المكافحة”.

الأم.. كانت سعيدة بزفاف ابنها الأصغر وعروسته في تشرين الأول/ أكتوبر، وفصلت ملابس زاهية لها، أخبرت الجميع أن هذا منزل العريس، واستقبلت فرحها. لكن بإحساسها الداخلي اختارت ثوبها الأسود القديم لترتديه يوم عرسه، شيئاً بداخلها أنبأها أن ابنها المقاتل الذي كان يحارب المحتل التركي آنذاك على خط سري كانيه ليس بخير، ليصلها نبأ استشهاده بعد أسبوع من يوم زفاف ابنها الأصغر.

على مشارف شارعها أقيمت مراسم تليق به وشيّعته إلى مثواه الأخير دون جسد. لقد خطف الألم سعادتها، تقلب صوره على هاتفها ويداها ترتجفان، وتارةً تختلس النظر لصورته المعلقة على جدران المنزل.

أم فدكار… الأم المكافحة… أم الشهيد… أم الزيتون… خصال اجتمعت في الأم الثورية… في الأم المكافحة… في أمي..

إنها أمي… أم الشهيد.