سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

أزمة المدنية وحل الحضارة الديمقراطية

"الدولة القومية.. الحدود والوطن"

أحمد بدوي_

لم يعرف المجتمع البشري طيلة تاريخه حدوداً من نمط الدولة القومية، فهكذا حدود مخالفة لطبيعة الإنسان الثقافية. قد ترسم الحدود لأجل الأراضي كما يؤدي استقرار المجموعات البشرية على أرض ما واندماج المكان مع الثقافة المادية والمعنوية إلى تكوين مصطلح الوطن.
هذا وتؤثر عمليات الاستقرار الطويلة المدى بنحو مهم في تكوينات الهوية أيضاً على شكل قبائل وأقوام، ويغدو مصطلح الوطن بهذا المعنى أمراً لا غنى عنه بالنسبة للمجتمعات، لأنه يحل المشاكل، فإلى جانب عدم وجود حدود صارمة في ظاهرة الوطن، فإن اللغة والثقافة المشتركتين والسوق الاقتصادية تُطور مفهوم الحدود المرنة.
المشكلة تبدأ مع قيام الدولة القومية والرأسمالية بشكل متداخل بإخضاع الوطن والمجتمع الذي يحتويه تحت هيمنتها إذ كلما فُرض مفهوم التجانس اللغوي والثقافي، تحول الوطن والحدود إلى مكان احتجاز مشدد على المجتمع، وبذلك يرتفع مستوى العبودية العامة داخل المجتمع. ولكن حدوداً صارمة كهذه لا ترسم لأجل الدول، ذلك أن صرامة وقطعية الحدود تمثل قوة نير العبودية المسلط على ذهن الإنسان وإرادته، وتعبر عن التحول من سجن صغير إلى سجن بمستوى البلد.
وبالأصل فالحدود الفاصلة إلى هذه الدرجة تفيد باستملاك البشر وتسخيرهم كما يُراد وتبضيعهم وتجييشهم، بحيث لا يبقى فارق بينها وبين السجن.
إن الحدود السياسية تتصدر لائحة المخترعات الاجتماعية المتغيرة بأقصى سرعة، على الرغم من كل التقديس لها. فحتى تخيل حدود الدولة الحالية قبل قرن من الزمن أمر مستحيل.
فتكريس المساحات المرسومة افتراضياً ونقشها إلى هذه الدرجة في أذهان المواطنين وكأنها موجودات مقدسة أزلية وسرمدية وائتمانهم عليها إنما يعني إنشاء أكبر القضايا وأكثرها تعقيداً. مع العلم أن موت مئات الملايين من البشر وإبادة عدد لا يحصى من قيم الثقافة المادية والمعنوية في الحروب المخاضة من أجل حدود الدولة القومية في غضون الأعوام الخمسمئة الأخيرة يبرهن على مدى تفاقم القضايا المفضى إليها.
مجتمع الدولة القومية الوطني المتجانس
من الواضح أن مواطنة الحداثة تعبر عن الانتقال من العبودية الخاصة إلى عبودية الدولة؛ ذلك أنه لا يمكن للرأسمالية تحقيق الربح دون هذا النمط من جيش العبيد العصري. فعلى الرغم من كل تجاربها في التقديس إلا أن الحقيقة الكامنة في مضمون المواطنة هي بناء عبودية عصرية منتجة للربح، والمجتمع الوطني المتجانس هو ثمرة من ثمار “مشروع الهندسة الاجتماعية”.
إن مجتمع الدولة القومية الفاشية الذي بلغ ذروة نضوجه في الفاشية فقد اتخذ حالة المجتمع المحارب الذي نتج عنه أفظع القضايا هولاً من إبادات مجتمعية وعرقية.
 الدولة القومية الجنسوية
لطالما توطدت الحاكمية الذكورية التي طورتها الهرمية التقليدية وسلطتها على المرأة طيلة تاريخ المدنية. والسلطة التي بلغت حدها الأقصى في شكل الدولة القومية.
إنما نهلت قوتها هذه بنسبة كبرى من الجنسوية التي وسعتها وعمقتها. ذلك أن الجنسوية ليست وظيفة بيولوجية اعتيادية، بل هي أيديولوجيا تنتج السلطة والدولة القومية بقدر نزعة القوموية كأقل تقدير.. فجنس المرأة بالنسبة للرجل موضوع شيئاني وأداة طبق عليها شتى أشكال طمعه وجشعه.
وهذه الامور هي التي تعكس الطابع الفاشي للسيطرة الحاكمية. إن الجنسوية في الدولة القومية وحش اجتماعي خطير كما الرأسمالية. لكن المؤسف أن حاكمية الرجل الجائر الماكر يسلك موقفا تعسفيا لا هوادة فيه من أجل عرقلة ظهور حقيقة المرأة وأخذ دورها الريادي في نهضة المجتمع.
إن الرأسمالية والدولة القومية اللتان تدركان بوعي عميق لخصائص عبودية المرأة تتوخيان العناية الفائقة في استخدام المرأة كأرقى أداة لرأس المال والسلطة، لذلك ينبغي العلم يقيناً أنه من دون عبودية المرأة لا فرصة لأي شكل عبودي في التطور والحياة.
فالرأسمالية والدولة القومية تعطي الرجل حاكمية أكثر تمأسساً فهما احتكارية الرجل الطاغي المستغل وربما تحطيم هذه الاحتكارية أصعب من تحطيم الذرة.
الدولة القومية والمجتمع الأخلاقي والسياسي
تحرص الدولة القومية على إظهار نفسها كدولة القانون بل وحتى أنها تقدم نفسها كحالة يتحقق فيها القانون كلياً لأول مرة، ووراء حقيقتها هذه يكمن إنكار المجتمع الأخلاقي السياسي. ذلك أن القانون تصنيف اجتماعي تسعى طبقات الدولة عموما والبرجوازية خصوصا إلى احكام سيطرته بدل الأخلاق والسياسة.
إن انكار الدولة القومية للمجتمع الأخلاقي والسياسي هو من أجل إظهار نموذج القانون البرجوازي الذي من خلاله تستطيع التحرك بمرونة وسلب المجتمع من حقوقه الديمقراطية السياسية، وبذلك تحكم الدولة القومية سيطرتها، فبقدر ما تتكاتف الدولة القومية مع القانون بالتدخل بشؤن المجتمع، فتتسللان إلى كافة ميادين المجتمع وبذلك فقد تم تجاوز وإفناء المجتمع الأخلاقي والسياسي فيتحول إلى مجتمع ظاهري إذ لا يترك حيز للأخلاق والسياسة ضمن قواعد الدولة القومية والقانون (الدستور، القانون، وعلم الأنظمة الداخلية).
ومما تقدم نستنتج، بأن الدول القومية ماهي إلا سجن للمجتمع وأفراده، وهي تخدم الرأسمالية وهما وجهان لعملة واحدة، فقد تم سلب إرادة المجتمعات وخدعهم بها، وسلب حقوق المرأة واستعبادها بخلاف طبيعتها البشرية، وما نعيشه اليوم في ظل حركة التحرر التي يقودها القائد آبو وبفكره الذي جرد هذه الدول وأظهرها على حقيقتها وزيف ادعاءاتها، وبفضل المكتسبات في الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا وتطبيقها لمفهوم الأمة الديمقراطية وحرية المرأة وأخوة الشعوب، فإننا نعيش تجربة تلامس مشاعرنا البشرية الحقيقية بالعدل والمساوة، ونجاح هذا المشروع يعتبر طوق النجاة ليس فقط لشعوب شمال وشرق سوريا بل لكافة الشعوب في منطقة الشرق الأوسط والعالم.